الرئيسية / ثقافة عامة / بين الدعوة إلى الدين والدعاة إلى الدين

بين الدعوة إلى الدين والدعاة إلى الدين

حسن شرف الدين

يقف المرء كثيرًا أمام كلمتي “رجل دين”، أهو الرجل الملتحف بعباءة وبعمّة على رأسه، المُحاضر في المسجد ويدرس ويُدرّس في الحوزة؟ قد يكون كذلك، ولكن من الممكن أيضاً أن يكون من غير الذين يحاضرون في المساجد ويدرسون في الحوزة. رجل الدين ليس حصراً من یرتدي البزة المتعارف عليها، إنما هو من يظهر الدين قولا وفعلًا ووعظًا، ويؤثر في صلب هذا المجتمع في أضيق أزقته، كي يتبين الدين من اللا دين.

كثيرون يستطيعون أن يكونوا رجال دين ليس بمجرد التسمية أو باللباس، وإن لم يستقوا من نبع الحوزة العلمية فقط أو يحذوا حذوها، بل قد يكونون حوزويون أكثر من بعض روّاد الحوزة أنفسهم! المفارقة الكبرى تكمن في الفكر والعقيدة التي يحملونها، بين التحرر المتنور ودوغمائية التحجر. بين أن يجلس العالم كالكهنة وطبقة الإكليروس، يمارس طقوسه من برجه العاجي بغير تطبيق فعلي أو انعكاس عملي، وبين أن ينزل إلى ميدان المجتمع فيوعظ ويوقظ بعلمه وعمله، بل أكثر من ذلك، أن يجرّ ويجذب كل من حوله إلى التغيير والثورة على وضع لم يعودوا يحتملوه، من خفّة في تقديم جوهر الدين مقابل التركيز على القشور. وهذا ما يحفظه التاريخ للإمام الخميني وثلته في ثورتهم العابرة للطبقات والأعراق و المذاهب، النادرة إن لم تكن الوحيدة.

وهذه الثورة هي أكبر عبرة لمن أراد التغيير و صنع رجال دين، وهذا إن عُرفت أصولها وآدابها وأهدافها وكل خطوة في ذاتها كانت قد مهدت لقيامها. هنا نواجه المفترقات الكبرى والمنعطفات عند كل ثغرة، حين تُحمل الشعارات من غير فكر وتطلق التصنيفات بغير دليل أو ذكر، ويذهب جميل جوهر هذه الثورة الإنسانية السامية، بأفعال وشعارات البعض المناقضة لها وإن بشكل غير مباشر. إذا أردنا الدعوة الى الدين فلنبدأ من الأسس السامية وقيمها، فلنبدأ بفكرة أن الأديان كانت واحدة تدعو لحقيقة واحدة في سبيل خدمة الإنسان كما قال الإمام السيد موسى الصدر يومًا، وكما رأى بفكره الأصيل والنيّر الذي يخاطب جوهر الإنسان بهذا اللين واللطف، وكما خاطب الإمام الخميني الناس وتواضع لهم وتفانى في خدمتهم وأصرّ على لقب “خادم الشعب” قبل أي شيء آخر، فوصل الإمامان إلى قلوب الناس، ألّفوا بين قلوبهم كما كان يفعل النبي محمد (ص). فكان الخطاب إلى الناس بالكلمة الطيبة والموعظة الحسنة، لا بالمبالغات والإسخفاف والتصنيفات الجاهزة والتهم، كالمناوئين للدين والمتملصين منه أو سيئي الفهم له.

ليس بهذه الوسائل تتم دعوة الناس إلى الدين، بل بذلك يتم تنفيرهم، إضافة للنفور الحاصل أصلاً في يومنا هذا، والذي يتعلق بعدة أسباب لا بسبب واحد. البيئة، الهجوم والتقاذف الفكري غير المجدي والتباين الثقافي، الحملات الإعلامية، وغيرها… بالإضافة إلى بعض الدعاة إلى الدين أنفسهم. لا شك بأن أثر هذا التقاذف الفكري والثقافي العشوائيان الذي أسماهما سماحة الإمام الخامنئي بالحرب الناعمة لها وطأة كبرى في هذا المنوال بكل تداعياتها، وما يبنى عليها من حملات إعلامية مغرضة وما شاكل. ولكن لا يمكننا أن ننفي أو أن نقلل من أثر ظاهرة النفور بسبب بعض الدعاة إلى الدين أو أفعالهم أو أساليبهم أو طريقة حياتهم. وهذا ما استعرضه المفكر علي شريعتي وحورب لأجله. الدعاة إلى الدين، المنصاعين لأمر والٍ فاسد والمتحجرين فكرياً، أصبح موقعهم موقع سلطة لا دعوة، يصنعون هذا الشرخ الفادح بينهم وبين الناس فيصبحون كطبقة إكليروسية بعيدة كل البعد عن هموم الناس وأفعالهم و تفكيرهم، فيظنون بأن هذه الممارسات تدرج ضمن الدعوة إلى الدين، وواقع الأمر ليس كذلك.

وفي هذا السياق أريد أن أسلط الضوء، على شخصية منسية، ولكن نموذجية، في إظهار الدين والدعوة له، وعون المظلوم وأخذ الحق له وفي لجم بطش سلطان مفسد سمّى نفسه خليفة للمسلمين وخادمهم، وهو كان ببطشه ظالمهم وسارقهم. وقد عنيت بالشخصية النموذجية، “بهلول” أو أبا وهب، وبالسطان المفسد هارون الرشيد. الملفت في قصة بهلول، هذا العالم الفقيه الواعظ، الذي كان يعلّم الناس ويفقههم في المساجد، في مقابل هارون الرشيد الذي تنسبه قرابة له أيضًا، الذي أراد تعيين بهلول كقاضي القضاة، والذي نوى إشراك بهلول مع عموم القضاة بإصدار فتوى بقتل الإمام الكاظم (ع)، في حين أن أبا وهب كان من الموالين الخلّص للإمام والداعين إلى ولايته. في تلك اللحظة، خلع أبا وهب الفقيه زيّ العالم الفقيه، وامتطى قصبة خشبية وأظهر جنونه ليفرّ بدينه من بطش الرشيد. هذا العالم المخلص الموالي، بكل ما أوتي من فقه وعلم ومكانة عند الناس وحتى عند الخليفة، امتطى قصبة الجنون ولازم أزقة سوق الكرخ وكان داعياً بين الناس وحلالًا لمشاكلهم ولاجمًا للظلم وواعظا لهارون في ظل بطشه بغير خوف. وأمسى ينصر مولاه في كل موقف وكل مكان ومع أي طالب حاجة له، يبهره بفطنته وورعه وطيبته، خير داع إلى دين الله و مظهر له وخير موالٍ لمولاه. الحديث عنه شيّق وطويل وقصص البهلول وحدها درس كافٍ لأي متقصٍ للحقيقة ويبحث عن إعلاء كلمة الدين. وأذكر هنا حادثة واحدة مما جرى مع بهلول وابو نواس، ذاك الشاعر المعاقر للخمرة، الذي استطاع بهلول بأسلوبه وحكمته استيعاب هذا الشاعر وشخصيته، وأن يرى أن في قلبه بصيص نور إلى الله، و إيمان وسط كل المجون والسكر، فتارة يظهر أبيات أبو نواس التي كتبها في الحج، التي تمثلت كمناجاة تائب ومؤمنٍ بغفران ورحمة الرب، وتارة بما جاء إليه أبو نواس من مال أراده ان يذهب لفقراء الكرخ.

فيا ليت لو يشاهد كل من يريد الدعوة إلى الدين هذه المواقف، وأن يدرس حياة وشخصية بهلول الإنسان أولاُ، الذي عاش بين الفقراء من الناس في الأزقة عيشة الزهد، يقاسمهم حتى طعامه ويكون عوناً لهم في همومهم ولا يشكو همومه إلا في خلوات التجهد. هذا هو رجل الدين، وهكذا رجال يمكن أن نسميهم رجال دين، الذين يضحون و يتفانون ويكونون عونًا للناس في كل حاجة، واعظين بالحق في كل محاججة، ومظهرين للحق حتى أمام سيوف سلاطين الظلم والجور، فيا ليت لعصرنا من بهلول!

شاهد أيضاً

ندعوا أهل الخير للمساهمة في إفطار مئة صائم يومياً

بمناسبة حلول شهر رمضان المبارك، يطلق “مركز مصان” لذوي الإحتياجات الخاصّة مشروعه الإنسانيّ “مائدة الرّحمٰن” …

Open chat
أهلاً وسهلاً بكم