غوى قصير|
منذ مدّة وأنا تلازمني “فوبيا الكتابة”.
حاولت في الليالي الماضية أن آتي على نفسي، فكّرت في أن أسكّن ألم الخوف هذا وأعيد ترتيب الأشياء، أضع الحاسوب أمامي لكنّني غالبًا ما كنت أشرد أو أستمع لبعض النصائح فيما يخص القلق الليلي او أقرأ مقالات مملّة عن الفن والأدب، ربّما لم تكن مملّة بل روحي هي التي كانت ملولة، أغلقه بعد تعبي المتجدد وأعود إلى ردهتي حائرة، أبتلع غصّة القلق وأعدّ خطواتي.
تركت الأمر للوقت، شعرتُ بأن يدي فارغة من اللغة، ودعوت همسًا في نفسي: “يا ربَّ الكلمة إليكَ خوفي” وغفوت بعدها.
ما بين الحلم واليقظة شعرت بضيق تنفس وأحلام واهية لم أتذكّر منها شيئًا عندما تحرّكت يدي بطريقةٍ عبثيّة تحت الوسادة ونهضت بعدها لأتأكّد بأنّي ما زلت موجودة هنا في مكان صغير على هذا الكوكب أمارس حقّي في الحياة!
سمعت صوت أبي القادم من غرفة المعيشة وهو يخبر أمّي عن شيء ما يشابه: “الحمد لله يلي انقضت هيك، الله الكريم رحمنا”، ضاق قلبي، وبدلًا من أن أخرج ملهوفة كي أعرف ما سبب جملتهُ هذه، خرجتُ من غرفتي متثاقلة الخطى، هنا تأكّدت من مراحل الخوف المتقدّمة التي تنمو في عروقي. لهفتي كانت متآكلة، لم أسأل حتى عمَّا جرى، أمّي أجبرها الفضول على أن تخبرني بكلّ ما جرى ليلة أمس حتّى قبل أن تسكب لي فنجان قهوتي الذي اعتدت أن تسكبه لي في صباحات يوم الأحد وبدلًا من أن تردّ على تحيّتي الصباحية انهمكت في إخباري عن التفاصيل، فوجئت! وعندما بانت عليَّ الدّهشة مرَّ سؤالها عبثيّّا: “وين عايشة!”
تجّردت من خوفي، وفكّرت في سؤالها، فعلًا إنّه سؤال صعب، تمنيت لو لم تطرح عليَّ سؤالًا محيّرًا كهذا.
نهضت فجأة لأهرب من تساؤلاتي الكونية المفصلية، شاهدت التلفاز واستمعت لموجز الأخبار، حوار سياسي خضته مع والدي أخذني بعيدًا عن هلع ما كنت أفكّر به.
هاتفي! بحثت عنه، إنّه في يدي! تتكرّر هذه الحادثة معي كل أسبوع تقريبًا، لا يهم..
التقطه ورحت أتصفّح حسابي على فيسبوك، وبدلًا من أن أبتلع قهوّة أمّي المحلاّة رغم مرّها، ابتلعت خوفًا وألمًا جديدين، صورة واحدة تجمع بين شابين، تصفحت صفحتي أكثر، كل أصدقائي الافتراضيين شاركوا الصورة ذاتها، انفعالي كان غريبًا، أرسلتُ الصورة لصديقتيّ المقربتين، فردّت إحداهنّ وقالت: “يا ريت نموت مع بعض متلن”، انكمش قلبي وشعرت بروحي تنصهر! فكّرت في جملتها، راقت لي الفكرة، على الأقل سنكون معًا في ساعات رحيلنا الأخير.
ساعة من الوقت تقريبًا، شاهدت صورهما التي انتشرت على المواقع، يبدو أنّهما صديقان في السّلم والحرب، حاولت أن أكتب القليل عنهما، ارتبكت، تذكرت الفوبيا، قلت:” سأكتب، حتى ولو جملة واحدة، الأمر يستحق المحاولة”، مرَّ وقت قصير وبدأت صورهم تتكاثر، من أيام شغبهم الأول وطفولتهم السمرّاء المحنطة بالذكريات، ملتصقان طيلة الوقت، العفوية التي ظهرت لي وأنا أمعن النظر في الصّور لم تكن مصطنعة، إنّها حقيقية، لا بل واضحة كخيوط الشمس التي شقّت فجر نهارنا هذا.
تألّمت بشدّة، لا أعلم لماذا، وخزة في القلب أوجعتني، أعادتني إلى يومٍ خريفيٍّ ماطر لأتذكر حبيبي الأول ذاك الشاب العشريني الناضح، لا يهم، لقد نسيتهُ، نعم نسيتهُ فعلًا، لقد تذكّرت الوخزة فقط، كانت تشبه وخزة إبرة الطعم الأوّل التي تذوقتها في أشهري الأولى كي لا أصاب بالحُمّى.
كتبت أكثر من مرة وتراجعت، شعرت بخجلٍ فظيع، ما الذي سأكتبه عن هذين الشابين؟ تأمّلت وجه “ياسر” وحركة يده الفقيرة العفوية، وساعته الجلدية، لقد أعجبتني كثيرًا، وجه “حسن” البريء الذي كان موجّهًا للكاميرا وابتسامته التي سمعت صداها في أّذني، وأخيرًا ألهمني الله، كتبت جملة متواضعة، متواضعة جدًّا: ” كأنَّ وجهيكُما كانا ينتظران! حقيبة “ياسر” الممتلئة بالرحيل، وابتسامة حسن الأخيرة” وشردت..
كم كان قريبًا الموت منكما؟ ما هو الشيء الأخير الذي حصل في تلك الليلة، ما هو الحديث الأخير الذي دار بينكما؟ من أكل حبّة التمر الأخيرة؟ يبدو لي أنّ “ياسر” مدًّ يده ليُطعم “حسن” آخر لقمة من رغيف الخبز اليابس الذي وضع نصفه للعصافير، هكذا كنتما، تشبهان مقطع من قصيدة محمود درويش: “كما ينبت العشب بين مفاصل صخرة، وجدنا غريبين يومًا ونبقى رفيقين دومًا”.
الابتسامة الأخيرة وأنتما ترقدان جنبًا إلى جنب بعد أن تقاسمتما لذّة الاحلام في زاوية ذاك البيت، نلتم الشهادة معًا كفًّا بكف، وكتفًا بكتف، نظرتما نظرة الوداع الأخيرة وهمستما: “لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا”
Check Also
غزة ما بعد العصر الإسرائيلي: قيامةٌ لا رجعة منها
يمثّل تحرير قطاع غزة من الاحتلال الإسرائيلي محطّة مضيئة في الصراع المستمرّ مع العدو، كونه …