أرسل الله سبحانه محمداً بشيراً ونذيراً للبشرية جمعاء، ليخرجهم من الظلمات إلى النور، وجاءهم بشريعة سمحاء، تنظّم أمور دينهم ودنياهم، وقد بدأ (ص) دعوته العلنية بعشيرته الأقربين، ودعاهم للإسلام والنطق بالشهادتين، وأخبرهم أنّهم إن أطاعوه دانت لهم الدنيا، وأنبأهم أنّ الخليفة من بعده هو علي بن أبي طالب (ع)، الذي تربّى في حجره (ص)، واستمر علي (ع) في ملازمة النبي (ص)، وكان في أيام الحصار في شعب أبي طالب يتبادل الفراش مع النبي (ص)؛ بأمرٍ من والده أبي طالب، الذي كان يخشى أن ترصد قريشٌ محمداً فتغتاله في فراشه، وكان آخر مبيت لعلي (ع) في فراش رسول الله (ص) في مكة ليلة هجرة النبي (ص) إلى المدينة، وقد كان علي (ع) يسمع الوحي، ويرى جبرائيل (ع)، وكان النبي (ص) في كل يوم يفتح لعلي أبواباً من العلم، وقد ورد عن علي (ع): علّمني رسول الله (ص) ألف بابٍ من العلم، يُفتح لي من كل بابٍ ألف باب . فاستحق (ع) من النبي (ص) أن يجعله باب مدينة علمه، قال (ص): أنا مدينة العلم، وعليٌّ بابها . فكان النبي (ص) في كثيرٍ من المواطن يُبيّن مكانة علي (ع)، وأنه الخليفة من بعده، وأنه منه بمنزلة هارون من موسى، إلاّ أنه لا نبي بعده، وكان علي (ع) بطل الحروب، يكشف الكرب عن وجه رسول الله (ص)كما أفصحت بذلك سيدة نساء العالمين (ع) في خطبتها المعروفة بالفدكية، إذ جاء فيها:(كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله) أو نجم قرن الشيطان، أو فغرت فاغرة من المشركين، قذف أخاه في لهواتها، فلا ينكفئ حتى يطأ صماخها منها بأخمصه، ويخمد لهبها بسيفه، مكدوداً في ذات الله، مجتهدا في أمر الله، قريبا من رسول الله، سيدا في أولياء الله، مشمرا ناصحا، مجدا كادحا، وأنتم في رفاهية في العيش، وادعون فاكهون آمنون .
كان علي (ع) أحب الناس إلى رسول الله (ص)، وأقربهم منه، لا لأنه ابن عمّه أبي طالب الذي آواه وحماه في مكة، بل لما لعلي (ع) من صفات العلم والتقوى والشجاعة والتضحية في سبيل الله والإخلاص لله ورسوله .إنّ الله يعلم ما تنطوي عليه الأنفس، وما تخفي الصدور، ولإقامة الحجة على المسلمين؛ أمر الله سبحانه نبيّه (ص) أن يبلّغهم عن الله سبحانه ما كان قد أكّدهُ مراراً وفي مواقع مختلفة؛ أنّ علياً (ع) هو الولي والخليفة من بعده (ص)، وأن يجمع المسلمين ويأخذ منهم البيعة لعلي (ع) بالخلافة، لأنّ النبي (ص) كان يشعر أنّ ذلك ثقيل على كثيرٍ من الناس؛ إمّا حسداً منهم لعلي (ع)، أو انجراراً وراء رواسب جاهلية، حيث أنّ علياً كان قد قتل صناديد الكافرين من العرب، أو حباً بالدنيا والسلطة، فأنزل الله سبحانه على رسوله (ص) ” يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ “، فكان الاجتماع بغدير خمٍ، وخطب النبي (ص) حطبته المشهورة، التي أكّد فيها على وجوب التزام المسلمين بالكتاب والعترة، وأنّ علياً (ع) هو مولى كل المؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات، بقوله (ص): ألا مَنْ كنتُ مولاه؛ فهذا عليٌ مولاه . وقوله (ص): مَنْ أحبّ علياً فقد أحبّني .بعد ذلك مرض النبي (ص) مرض الوفاة، وعمل على إخلاء المدينة من كل مَنْ قد تسوّل له نفسه مزاحمة علي (ع) أو العمل على إقصائه، فأمر بتجهيز جيش بقيادة أسامة بن زيد، وقال (ص): جهّزوا جيش أسامة، لعن الله من تخلّف عن جيش أسامة . وكان (ص) قد استثنى عليّاً وبعض الرجال من ذلك الإلتحاق، وعندما شعر رسول الله (ص) بتلكؤ البعض وتأخرهم؛ أنّبهم وعاتبهم .
لقد حضر بيعة الغدير أكثر من مائة ألف ممن حجّوا ذلك العام، وكلّهم بايع علياً (ع)، وهنّأه بالولاية، وأبرزهم عمر بن الخطاب الذي اشتهر عنه قوله: بخٍ بخٍ لك يا ابن أبي طالب؛ أصبحت مولاي ومولى كل مؤمنٍ ومؤمنة . ولكن؛ بعد وفاة رسول الله (ص) تغلّبت الأنانيات والأحقاد، وبايعوا غير علي (ع)، وقبل أن يوارى رسول الله (ص)، ولم يثيت مع علي (ع) إلاّ القليل ممن التزموا بوصية رسول الله (ص) في حفظ الثقلين، ولم يبايعوا إلاّ بعد أن بايع عليٌّ مكرهاً، وعمل الحكام على الفصل بين الكتاب والعترة، كمؤامرة منع تدوين السنة، وصارت سيرة الشيخين شرطاً في البيعة، التي رفضها الإمام علي (ع) لأنها تخالف ما جاء به رسول الله (ص)، حيث أمر بالتمسك بالكتاب والعترة لا غير، وعندما قتل عثمان نتيجة تغطيته لجور الولاة من بني أمية؛ فانهال المسلمون على أبي الحسن (ع) يبايعونه بأن يسير بهم على سنة رسول الله (ص)، وبعد أن تصدى (ع) للخلافة حاربه القاسطون والناكثون والمارقون، وقد استشهد قبل القضاء الكامل على الفساد والانحراف الذي كان متمثلاً في معاوية، وكان صلح الإمام الحسن (ع) الذي به حفظ دماء المسلمين وحمى الدين، وقد كشف زيف الإسلام الأموي، ومع ذلك دسّ معاوية السم للإمام الحسن (ع)، وسعى لأن يجعل الأمر من بعده لولده يزيد، مخالفاً بذلك ما اتفق عليه مع الإمام الحسن (ع)، من أنّ الخلافة تعود إلى أهل بيت النبوة (ع) .
بالترغيب والترهيب والوعد والوعيد صار يزيد حاكماً على المسلمين سنة 60هـ بعد هلاك معاوية، ليكمل مشوار حلم معاوية بمحو ذكر أهل بيت النبوة (ع) ومحو الإسلام المحمدي الأصيل، لولا وجود الإمام الحسين (ع) الذي رفض البيعة ليزيد قائلاً: ومثلي لا يبايع مثله . وقد دعا الإمام الحسين (ع) إلى الإصلاح قائلاً: ألا ترون إلى الحق لا يُعمل به؟ وإلى الباطل لا يُتناهى عنه؟ . فكان يوم عاشوراء من شهر محرم، وكانت شهادة سبط رسول الله (ص) التي أحيت الإسلام بإحياء بلاغ يوم الغدير، حيث أنه في يوم الغدير كان إكمال الدين، وفي يوم الطف إعادة الحياة للدين، ليبقى نوراً ساطعاً يستضيء به أحرار العالم وكل من عرف الحق ليواجه به الباطل، لقد انتصرت كربلاء للغدير، وثبّتت الولاية ولو بعد خمسين سنة .
لقد أقال الإمام الحسين (ع) من بايعوه من بيعته، لكنهم ثبتوا وكان شعارهم [ أنبقى بعدك …؟ لا والله ] فكانت شهادتهم بين يدي وليّهم الحسين تثبيتاً للولاية ولبقاء خط الولاية، وحفظاً للإسلام المحمدي الأصيل في وجه الباطل، موالون بذلك إمام زمانهم، يأخذون دينهم عنه، وهاهم حسينيو العصر في زماننا ثابتون على ولائهم لإمام زمانهم رغم احتجابه عن الأنظار، إلى أن يأذن الله سبحانه بالفرج الأكبر، وثبات الغديريون على خط الإمام الحسين (ع) تجسيد لقول الشاعر:
كذب الموت فالحسين مخلّد كلّما أخلق الزمان تجدّد
في كلّ عصرٍ هناك من يستجيب لنداء الحسين (ع): ألا من ناصرٍ ينصرنا؟ فيقف مع الحسين بالوقوف وراء المرجعية الرشيدة، ويلتزم بقيادة العلماء الذين هم ورثة الأنبياء، في عصرنا الحاضر قام حسين العصر الإمام روح الله الخميني (قده) بمواجهة الباطل، وأقام جمهورية إسلامية على خطى كربلاء، قائلاً: إنّ كلّ ما عندنا هو من عاشوراء الحسين (ع) . وفي هذه الأيام تطلّ علينا الذكرى الحادية والأربعين لتغييب القائد الحسيني الإمام السيد موسى الصدر ورفيقيه، هذا الإمام الذي سار على خطى جدّه الإمام الحسين (ع)؛ فعمل على مواجهة الحرمان والطائفية، وواجه المخطط الأمريكي الذي أشعل حرباً أهلية تمهيداً لتقسيم المنطقة إلى دويلات، لتحقيق حلم الصهاينة بإسرائيل الكبرى، لقد وقف الإمام الصدر في وجه الحرب الطائفية وعمل على منعها، وقال: الطوائف نعمة والطائفية نقمة . وجهد ليبقى لبنان وطناً نهائياً لجميع أبنائه وطوائفه، وطناً يقوم على المحبّة والمساواة، وعاهد بأن لا يبقى محروم واحد في لبنان، فدعى لمواجهة الإقطاع، وهدّد باحتلال قصور المسؤولين وفتحها أمام المحرومين والمستضعفين، ورأى في الكيان الصهيوني خطراً على لبنان وعلى المنطقة، فأطلق شعاره المدوّي [إسرائيل شرٌّ مطلق]، وحذّر من إقدام العدو الصهيوني على احتلال جنوب لبنان، فأسّس لمواجهة هذا الاحتلال، ودعا المواطنين لحمل السلاح، وقال للفلاح: بعْ بقرتك واشترِ سلاحاً . مؤسساً بذلك لمجتمعٍ مقاوم وممانع، وشكّل أفواج المقاومة اللبنانية لتكون بالمرصاد للصهاينة، ولتحمي مصالح اللبنانيين وتساعدهم في القضاء على الحرمان، غير آبه بالأخطار التي كانت تهدّده، فهو ابن الإمام الحسين (ع) الذي كان شعاره [هيهات منّا الذلة]، وقد خاطب السيد موسى الإمام الحسين بقوله: إنّ أمل إرثها في ثورتك يا وارث الأنبياء .
تآمروا عليه وغيّبوه، لكن بذرته نمت، وانطلقت من مؤسسة جبل عامل التي كان قد أطلق عليها شعار [مصنع الرجال]، في مقاومة العدو الصهيوني، غيبوا الإمام الصدر لأنه كان حجر عثرة في تنفيذ مشروع كسينجر الهادف لتقسيم الدول العربية إلى دويلات تسهل السيطرة عليها، لتحقيق الحلم الصهيوني ولضمان أمن الكيان الغاصب وضمان سيطرته على الشرق الأوسط، اعتماداً على إيران الشاه وتركيا العلمانية، أخفوا الإمام الصدر وغيبوه عن ساحة جهاده، لكن الله سبحانه بالمرصاد، فانتصرت الثورة الإسلامية في إيران بقيادة الإمام الخميني (قده) الذي كان يعتبر الإمام الصدر ابناً من أبنائه، وشريكاً في ثورته التي تنبّأ الإمام الصدر وهو في طريقه إلى ليبيا مصرّحاً لوسيلة إعلامية مصرية: أنّ ثورة الشعب الإيراني لا بد وأن تنتصر، لأنّ قائدها رجل عظيم .
أسقط الإمام الخميني (قده) الشاه، وفشلت كل الحروب والمؤامرات بشتى الأساليب من إسقاط الجمهورية الإسلامية التي تعهّدت غرسة الإمام الصدر، فاستطاعت المقاومة من طرد الصهاينة من لبنان، وها هي اليوم أصبحت قوة إقليمية لها دورها المهم في خط المقاومة والممانعة في الشرق الأوسط في مواجهة المخططات الصهيو أمريكية .
فالوفاء للإمام الصدر هو بالثبات مع المحرومين والمستضعفين ضد الظالمين والمتغطرسين والفاسدين والناهبين، وبالحفاظ على ثلاثية [الجيش والشعب والمقاومة] التي أسّس لها الإمام الصدر .
إننا نرى أن تلازم الضغوطات الاقتصادية الأمريكية مع الاعتداءات والتهديدات الصهيونية على لبنان تؤكد على خلفية المشروع الصهيوأمريكي الذي يستهدف لبنان ودول الممانعة في المنطقة. إننا ندعو المسؤولين اللبنانيين إلى المزيد من الوحدة والتصدي للحرب الاقتصادية التي تشنها أمريكا على كل لبنان ومؤسساته الاقتصادية،ونؤكد علىأن هذه الحرب ستؤول كسابقاتها إلى الفشل، وهذا يضع المنطقة على حافة بركان. ونأسف لبعض الأصوات العربيةالنشاز التي لا تراعي حرمة لشعبها ولا لأي شعب حر في العالم، وتمارس كل انواع العنف غير المبرر ضد شعبها،وليس مستغرباً من هكذا أنظمة أن تتعاطف مع الجاني الغاصب لفلسطين والذي لا تردعه إلا القوة،إذ لولا قوة المقاومة في لبنان وجهوزيتها لكان العدو الصهيوني يومياً يمارس القتل والتعدي على الأرض والشعب، كما يفعل في فلسطين.
ونختم بتوجيه التحية إلى الجيش والشعب والمقاومة الذين يشكلون قوة لبنان التي تجعل من العدو الصهيوني خائفاً مرتعباً،ونثمّن المواقف العربية والإسلامية الحرة الداعمة للموقف اللبناني.
والحمد لله رب العالمين والصلاة على محمدٍ وآله الطاهرين
المصدر رامي أمين