بإمكانيات متواضعة، وجهود مباركة، وليال من العمل المتواصل، حملت هذه المشهدية أرواح من زارها نحو العلياء.
هناك، حيث الحسين عليه السلام يفتح أبواب الجنة للاحقين به، لمن لم يتخلفوا عن الزحف، وكتبوا “لبيك”، بعطاء الدم ونزف الروح.
تدخل في البداية خيمة الأصحاب، الليل فيها قد غشى، وهم لم يتخذوه جملا. ترى صورهم، تتلمس آثارهم، وتقرأ وصاياهم، بيعة صادقة ممهورة بالدم:
أنا يا سيدي لا أملك غير هذا الجسد الضعيف أقدمه بين يديك ودفاعا عنك..
أنا يا سيدي لا أريد جنة تجري من تحتها الأنهار، جنتي هي جوار أبي عبدالله الحسين..
أنبقى بعدك؟؟ لا والله. ما تركناك.
تتقدم نحو المخيم الحسيني، تستقبلك خيمة أول البارزين من بني هاشم. في خيمة علي الأكبر يجلس “هادي” ، يودع أباه، سيد الأمة وقائدها، ويكتب له:
والدي العزيز،
إلى سيدي ومولاي وأميني وقائدي وأستاذي ومرشدي، سلام لك من عمق الفؤاد، سلام عليك وشوقاً إليك وإلى رائحتك رائحة رسول الله.
وتسمع صوت الوالد يقول: الحمدلله الذي من علي وعلى عائلتي واختارنا لنلحق بالركب المقدس لعوائل الشهداء.
تسير نحو خيمة القاسم، تذكر وصية أبيه الحسن، وعطاء أمه رملى، ثم تقرأ رسالة كتبها ووقعها والدا الشهيد مهدي أبو حمدان -16 عاما- ، و هما يقدمان ولدهما في درب الحسين.
يكسر قلبك مشهد البدلة العسكرية إلى جانب كرة القدم و كتب المدرسة وثياب الرياضة والكشاف… هي الحياة، نعم يحبها مهدي، ولكن
“يا عماه، إني أرى الموت بين يديك أحلى من العسل”…
وبعدها، خيمة الكفيل، تتوسطها صور قمر من أقمار الجنوب، الشهيد القائد حسن نصرالله، أو كما يحب : “عباس”. عباس الذي مضى نحو العراق، يدافع عن مقام مولاه العباس. عباس الذي عاهده وطلب منه شهادة تتقطع فيها أوصاله. عباس الذي أخرجوا جسده من على ضفاف الفرات، مقطع اليدين، يد من الزند ويد من العضد. كيف لا؟ وهو عباس.
*أنبقى بعدك؟؟ لا والله. ما تركناك.*
وتسير، بخطى ضعيفة، نحو المصرع العظيم، حيث السماء الحمراء تكاد تطبق على قلبك، ترى صور الشيب الخضيب، والخد التريب، والجسم السليب، والرأس المرفوع…
تسلم وتسترجع وتسكب العبرات…،
وتهيئ نفسك لتدخل كربلاء عصر العاشر من المحرم، فتصدمك ثلاث خوذ، رفعت على نفس الرماح، معصبة بعبارة “فداك يا زينب”،
هنا لما نادى الحسين ألا من ناصر،
كان ذوالفقار عزالدين
هنا لما نادى الحسين ألا من محامي،
كان حيدر سبيتي
هنا لما نادى ألا من ذاب يذب عن حرم الرسول،
كان صلاح رشعيني…
*أنبقى بعدك؟؟ لا والله. ما تركناك.*
ثلاث رؤوس رفعت لأجل عين الحسين…
وآلاف أجساد تخضبت، لأجل ستر زينب،
ترى الأبطال تحيطها من كل جانب،
تحرس عباءتها،
بقلادات مفقودي الأثر، والكوفيات الحمراء،
وكل هذا،
كل هذا،
كي لا يرى أحد ظل زينب.
وكأن تلك الدماء استحالت ثورة، من كل صرخات المستضعفين في العالم، من كل الأجساد التي تفجرت ثأرا لمن مضى، ولما سيأتي، كأنها كلها تتجه ضمن هدف واضح محدد دقيق، نحو إرث العماد الأجمل، ووعد الأمين،
سنصلي في القدس.
*وإلى حينها، لن تسقط الراية، لن تقف وحيدا، لن نبقى بعدك…،*
*ما تركناك.*