زهراء حيدر عجمي |
كانت السّماء تمطر نارًا ، والرّصاص يتناثر من فوّهات البنادق بطريقةٍ يصعُبُ على طفلٍ مثلي أن يستوعبها .. كان الصّوت وحده قادرًا على أن يصيب صدري .. لم يكفني حينها عناقك يا أبي ، فإنّ الخوف الّذي تملّكني آنذاك قد تصدّعَتْ من شدّته أفئدَتي ..
وعلى الرّغم من الرّعبِ الّذي أصابك خلال لحظاتٍ معدودة بأن تفقِدَني ، فإنّ صرير أسناني كان يرعبك أكثر وذلك لأنّك إن كنت تفكّر بنجاتنا فإنّ فكرة نسياني لهذا المشهد كانت لتكون شبه مستحيلة ..
وعن دمعي الّذي فاض رُغمًا عنّي، فأعتذر من شيبتك يا والدي .. لكنّ ذاكرتي اختارت الوقت الأنسب لتعيد إليّ صِوري معكم ، فقد مرّ أمام ناظريّ شريط سنواتي القليلة .. صحيحٌ أنّ طفولتي لم تكن بهذا الحماس إنّما تعلّقي بالأمان الذي عهدته بينكم قد غلّبني .. وكما خانتني ذاكرتي ، فإنّ ذاك البرميل الإسمنتيّ قد خانك أيضًا ، ولم يَكُنْ لاختبائنا خلفه أيّ جدوى ..
عُذرًا إن كنتُ سببًا لتأخيرك عن المنزل ، فمسؤوليّتي لم تكن سهلةً إلى هذا الحدّ في ظلّ هذه الظّروف التّعيسة ..
عُذرًا لما تعرّضته من أذًى في سبيلي .. إنّ عمري لم يسمح لي بأن أحميك كما فعلتَ يا أبي .. وإنّي على يقينٍ بأنّك تعذرني .. فالأرض التي شهدت على حبّك لها كمحبّتك لنا لن تغفر لمن ظلمونا .. والدّم الذي سال منّا سيثأر لنا يومًا ما ..
الرّصاص الّذي أصابني يا عزيزي قد قتلني جسدًا ، لكنّه ما مسّ حُلُمي قط .. وأملي بتحرير أرضي ما فارق الحياة .. فهناك ، حيث أمنيات الّذين لا يبلغون من العمر سوى القليل ، قد تعلّموا أنّ السّماء وإن أمطرت نارًا لن يفتحوا للخوف أبواب .. وأنّ تناثُرَ الرّصاص من أفواه البنادق ليس سوى أحرف قصيدةٍ تلاشت في الهواء، فوصل صداها إلى مسامعهم على هيئة أذان ..
أنا محمّد جمال الدّرّة ، لقبي درّة الأقصى ، أعلنوا شهادتي منذ تسعة عشر عام .. ولا يزال اسمي يهزّ كلّ كيانٍ في كلّ آنٍ ومكان .. فالسلامٌ عليّ يومَ استُشْهِدت ، والسّلام على أرضي الّتي ما رأت من بعد موتي السلام .
Check Also
غزة ما بعد العصر الإسرائيلي: قيامةٌ لا رجعة منها
يمثّل تحرير قطاع غزة من الاحتلال الإسرائيلي محطّة مضيئة في الصراع المستمرّ مع العدو، كونه …