غفران مصطفى| 23 تشرين الاول 2019
تنزل النساء إلى الشوارع لا لتتراكم أصواتهنّ فوق أصوات المتظاهرين وحسب، إنما ليصنعن بأجسادهن أسواراً مضيئة لكل المدن المنتفضة. ليتقدّمن في مسيرات المطالب التي تبدأ مهنّ، وكأن المرأة “المُشرّع” الأساسي لمبررات الحياة اليوميّة، لأنهنّ ولّادات.
عرضت المحطات التلفزيونية والصحف ومواقع التواصل صوراً ومقاطع فيديو لتظاهرات كثيرة كان غالبيتها يتقدمها نساء. الأم والبنت والحبيبة والأرملة والمطلقة والعاملة، وكلهنّ هتفن بحقوقهنّ كلّ حسب الوخز الذي يؤلمها. ولم يقتصر الأمر على حقوقهنّ كنساء، إنما كنّ أبعد من ذلك بكثير، أيقونات الحراك الكبير.
المرأة اللبنانية على امتداد الوطن من جنوبه إلى شماله ومن ساحله إلى بقاعه، تطالب بالوظيفة والتعليم والطبابة والجنسية لأبنائها وحضانة أطفالها، وتحسين شروط العيش حتى لا يهاجر أبناؤها، وسلسلة تطول من المطالب المزمنة والمعلقة عن قصد. والشعارات التي رفعتها النساء أصدق دليل على أنها من صلب الحراك وليست تابعة له.
قضايا جوهرية وغبن وحرمان وانتهاك للحقوق مضاعف أصاب ويصيب المرأة اللبنانية، عانت وتعاني من البطالة وعدم المساواة بالأجور إذا وجدت عملاً.
واللافت في الحراكات التي تقودها النساء أنها تحشد، وكأن الوجود من حولها وإحاطتها بهذه الكثافة حماية للجمال الذي يحتويها، ابتداء من ضعفها القوي الباهر إلى صرختها الخارجة من عمق القلب إلى حملها همّ أولادها وأخوتها وأهلها وأصدقائها ورفقائها في الوطن.
النساء هنّ أرحام المدن والصرخات وحبال سرّة، يصلنَ الشارع بالشارع، واليد باليد، والمطلب بالمطلب، والصرخة بالصرخة، كما يتّصلن بالأجنّة في أحشائهنّ.
لا تنزل المرأة إلى الشارع لتشارك كل النّاس، هي ترأف بالمطالب، تخلق لها المبررات، تُمهّد لأن يتحول مشهد الشارع لـ”أيقونة” على مرأى العالم. لأن المرأة لا تخسر في الحرمان والعوَز وحدها، بل هي تخسر مرّات مضاعفة، لوالدها وإبنها وزوجها وأختها. فطالما أن العالم بأسره لا يختزن ثورتها وحرقتها وغضبها، لماذا لا يرحمها؟
نزل الناس إلى الشارع، عبّدوا الطرقات كل واحدة بحاجة، وامتلأت النسوة فيها لتعطي نبضها دفعاً للأمام، وكأنّ وجودهنّ على الأرض حُجّة للمسؤولين لتمرير طلبات الناس الموجوعة، لأن دورهنّ يترسّخ في خلق وتمهيد حيواتنا لا لاستجدائها.
فأثناء التظاهرات في بيروت، هرعت بنت إلى موكب وزير بينما كان يطلق مرافقوه النار على المتظاهرين ويعتدون عليهم بالضرب. هرعت كليثٍ غضبان وركلت رجلاً مسلحاً ليكفّ يده عن المتظاهرين. تراجع عنها الرجل… فرسّخت بفعلتها قوّة “ضعفها” أمام ضعف “قوّته”.
البنت الخارجة من بيئة لبنانيّة منقسمة ومشرذمة، جراء ما فعلته السياسة في البلد. غير أنها في لحظة الانقضاض هذه كانت بنتاً لبنانيّة فقط، بدون توجهات وتحزبات، تدافع عمّن هم مجازياً في “حمايتها”. لأن في أنوثة المرأة درع حصين، حتى غدت أيقونة الثورة.
وغيرها الكثيرات ممن تصدّين للمطالب الحقوقيّة، ولا يزلن، في محاولة لمدّ الشوارع بصخب أنثوي جميل، لأن صرخة المرأة صرختين، واحدة للعالم وأخرى في قلبها، حيث المكان الذي ينبض فيه محبة الوطن الذي تحتويه كأمهات في بيتنا الكبير.