لم يكن يتوقّع الناشطون في ​الحراك الشعبي​ أن يدعو رئيس ​المجلس النيابي​ ​نبيه بري​ إلى تمثيلهم في ​الحكومة​ العتيدة. كان معظم الناشطين يظنّون أنّه الأكثر إستياء من حراكهم، خصوصا بعد ​تظاهرات​ صور والنبطية في ​الجنوب​ التي لفتت نظر عواصم غربيّة، لكونها الأولى في الساحة الشيعيّة. لكن رئيس المجلس سجّل أول إنفتاح رسمي عملي نحو الحراك، إلى درجة أنّ الناشطين أُصيبوا بإرباك جرّاء خطوته، بعدما كانوا ينادون بوزراء تكنوقراط: هل ندخل الحكومة؟ من يمثّل الحراك؟ من يسمّي الوزراء؟ هل تقضي المشاركة على نشاطنا؟ كيف يمكن قيادة البلد سياسيا بوزراء تكنوقراط؟ وما الفرق حينها بينهم وبين ​المدراء العامين​ في الوزارات؟ كلها أسئلة دارت في ساحتي الشهداء و​رياض الصلح​ وفي كل جلسات “المتظاهرين” خلال ​الساعات​ الماضية.
في تلك الضربة مارس رئيس المجلس لعبة البلياردو، فأوقع أكثر من طابة معاً. أولاً، برهن عن رغبته بعدم تجاوز شريحة ​لبنان​يّة واسعة نزلت الى الشوارع. ثانياً، اراد قتل الإحتجاجات، ووقف التظاهرات عبر نقل ممثلي المحتجّين الى داخل ​السلطة​ لتحمّل المسؤولية الإقتصاديّة والسياسيّة في مرحلة لبنانيّة صعبة. ثالثاً، أصاب المتظاهرين بخلاف ضمني داخل صفوفهم نتيجة فرض سباق طبيعي بينهم للوصول الى طاولة ​مجلس الوزراء​، بعدما كانوا يتهرّبون من أمر بتّ قيادة “المتظاهرين” لعدم وجود إتفاق. رابعاً، أكّد أنه السياسي الأكثر ليونة ودبلوماسية وواقعية بتقبّله الفريق المعارض، لإستيعاب الحراك في عز نشاطه. خامساً، أراد للجسم الشبابي الذي شكّل عصب “المعتصمين” أن يُمثّل في مجلس الوزراء لفتح صفحة جديدة تستوجب حُكماً إستبدال كل القوى السياسية لكامل الطقم الوزاري الآن والنّيابي لاحقاً، إنسجاماً مع رغبات الشعب الذي يحتاج الى تغييرات جذريّة تبدأ بإظهار وجوه جديدة تبني الثقة المفقودة بين الأحزاب ومعظم المواطنين.
كل الخطوات التي رسمها بري قد لا تنفع في حال رفض المحتجّون المشاركة في الحكومة للهروب من أزمتهم، واكتفوا بمراقبة عمل الحكومة من خارجها، واعطائها فرصة زمنية محدودة تصل الى ستّة أشهر للعمل في فرصة انتقاليّة، تُنتج قانوناً إنتخابياً جديداً وتشرف على انتخابات نيابية مبكرة لا تراجع عنها.
لكن معلومات خاصة لـ”النشرة” كشفت ان طرح بري دغدغ طموحات عدد من قيادات الحراك، الذين سارعوا الى نسج او تجديد خيوط التواصل مع سياسيين عبر قنوات عدة، لإظهار واقعيتهم وتسويق أنفسهم. وهذا ما تنبّه له كوادر في “المعتصمين” وفتحوا نقاشات دارت حول التحذير من طرح بري، وكأنه “فخّ” يستهدف إيقاع الخلافات بين شباب الحراك.
من يعرف رئيس المجلس يُدرك انه لا يهدف الى إيقاع خلاف بين قيادات الحراك، بقدر ما يسعى الى التعامل بواقعيّة مع مرحلة ما بعد ١٧ تشرين. كل تجارب بري تفيد أنه الأكثر خبرة وحنكة وحكمة سياسية في التعامل مع المتغيّرات أو الأزمات، إلى حدّ أنه أوحى للحراك بأهميّة طروحات حركة “أمل” التي تشكّل عناوين “المعتصمين” الشعبيّة الآن: قانون انتخابي وطني على اساس لبنان دائرة انتخابيّة واحدة وفق نظام النسبيّة، وهو مطلب “مفكري المتظاهرين”. الغاء الطائفية السياسية، والتوجه نحو دولة مدنيّة، وهي مطالب شريحة واسعة من الحراك، وخصوصا اليساريين الذين تصدّروا في التهجّم على بري جنوباً.
لا يستبعد سياسيون ان يكون رئيس المجلس النيابي هو الأكثر واقعيّة في التعامل مع مرحلة ١٧ تشرين، بإجراء تغييرات داخل تركيبة حركة “أمل” التي يقودها، من خلال إعطاء الدور للجيل الجديد، في المراكز الحزبيّة والمواقع النيابيّة والوزاريّة، بعدما كان أقدم جزئياً ومرحلياً على ذلك بتوزير ​محمد داوود​ وزيراً للثقافة، لكنه لم يفعل ذلك في النيابة التي كرر فيها معظم الوجوه المستمرة منذ اكثر من عقدين.
واذا كان الشباب هم نبض الحراك، فهل تستطيع الأحزاب بشكل عام تقديم وجوه شابة مسيّسة ومثقّفة وقادرة على مخاطبة الرأي العام؟ ما حصل في الحراك الشعبي أكد وجود هوّة بين الشباب الصاعد والأحزاب التي شاخت قياداتها، وبات معظمها لا يلبّي طموحات الشباب في لبنان. يعدّد المحتجون الوزراء والنواب الذين مضى على وجودهم في مراكزهم سنوات طويلة، أو الذين حلّوا في آخر حكومة ولم يتركوا أيّ بصمة لا حكوميّة ولا سياسيّة ولا شعبيّة، عدا عن الإتّهام لبعضهم بالتورط بالفساد. يعتبرون أنّ المصائب تكمن في تجارب حكومية فاشلة: هل يُعقل ان الشعب اللبناني لم يلمس أيّ انجازات لوزراء حاليين في الحكومة المستقيلة؟! تؤكد هذه الواقعة أنّ وزراء غابوا عن المشهد من دون همسة ولا لمسة، ولا حسّ ولا خبر، ولم يطلعوا الرأي العام على إنجازات في وزارتهم.
هذا يشكّل أحد أسباب نقمة الرأي العام على شخصيات حكوميّة عابرة لم تعالج الأزمات في وزاراتها، ولم تُقدّم للرأي العام توضيحاً عما تفعل، بينما تورط آخرون بفساد او منعوا محاسبة الفاسدين.