لم يعد من مجال سوى لقول الأمور كما هي، بلا لف ولا دوران.

السلطة قررت ممارسة المكابرة. قواها الرئيسية تتعامل مع الناس في الشارع كما لو أنهم جمهورها المطيع. ثمة من يصرّ على ألا يقرأ ما يجري. رئيس الحكومة المستقيل، سعد الحريري، يتصرّف كما لو أنه قائد المواطنين المنتفضين للأسبوع الثالث على التوالي. يريد استخدام الشارع في وجه خصومه ــ شركائه، لنيل تنازلات منهم تجعله السياسي الأوحد في حكومة من «الاختصاصيين». مقرّبون منه يؤكدون أنه لن يتمسّك برئاسة الحكومة إذا أراد «الآخرون» أن يفرضوا عليه حكومة «لا ترضي الناس». والعبارة الأخيرة ترجمتها، في نظر الحريري، إخراج جبران باسيل ومحمد شقير من الحكومة، وتلبية طلبات سمير جعجع، وإعادة الاعتبار إلى دور وليد جنبلاط في السلطة. لا همّه الناس ولا بلاده. يريد أن يستريح من عبء باسيل عليه، رغم أنه كان شريكه «المدلّل»، منذ التسوية الرئاسية. ولأجل ما تقدّم، يقضي الحريري وقته منتظراً. يدخّن السيجار الذي عاد إلى الإكثار منه، ويستمع إلى مستشاريه. يزعم أنه لم يعد قادراً على ضبط «جمهوره» الذي نزل إلى الشارع منذ استقالته، وخاصة في الشمال والبقاع، لكنّ المحيطين به يرون في هذه التحركات أداة طيّعة للضغط على الآخرين، وإجبارهم على التنازل له. بعض عارفيه يقولون إن عدم تسميته رئيساً للحكومة المقبلة سيعني انتقاله إلى ضفة الحراك!

سمير جعجع، بدوره، عادت به الأوهام إلى حدّ اعتقاد نفسه قائداً لـ«المناطق المحررة». وهو بالفعل بات قادراً على التحكّم في قرار قطع الطرقات من فرن الشباك جنوباً إلى شكا شمالاً. حدّد أولوياته التي لا صلة لها بمطالب الناس. فهو، منذ الأسبوع الاول للانتفاضة، أبلغ من راجعوه أن هدفه تحقيق التوازن داخل مجلس الوزراء، من خلال نيل عدد أكبر من المقاعد. ترجمة ما قاله جعجع يعني أن يعود ما كان يُسمى فريق 14 آذار إلى الحصول على الأكثرية في مجلس الوزراء. وهو عندما يتحدّث عن تكنوقراط، فإنما يعني بهم غالبية وزرائه السابقين (يرى جعجع أن غسان حاصباني وكميل بوسليمان من التكنوقراط). بكلام أوضح، يريد جعجع الانقلاب على نتائج الانتخابات النيابية الأخيرة.

وليد جنبلاط خائف. لا يرى في ما يجري سوى احتمال أن يضعف أكثر. يبعث برسله إلى حزب الله، ليؤكد أن حركته لا صلة لها بجعجع. وفي الوقت عينه، يصرّ على التنسيق مع الحريري في كل صغيرة وكبيرة. وهو، إذ يخشى «حراكاً داخلياً» في مناطق نفوذه، اتصل ببعض المجموعات من «اليسار التائب»، ليطلب منها الانضمام إلى الهبّة الشعبية. هو يظن أنه بذلك تصبح له يد في الشارع، طالما أنه يخشى نتائج التوتر الذي يمكن أن ينشأ عن مشاركته المباشرة في الحراك، فضلاً عن كونه غير مرحّب به من الناس، بصفته شريكاً في الفساد والاحتكارات.

جبران باسيل بدا أمس كمن سكِر بمشهد تياره الذي لم يتفكّك. يبدو أداؤه كما لو أنه كان مصدّقاً ما يُقال عن كونه «انتهى» و«احترق»، وإذ بخطوة الخروج من دائرة التلقّي للنزول إلى الشارع تعطيه دفعاً معنوياً كبيراً، لا لتغيير الأداء، بل للتمسّك أكثر من أي وقت مضى بشروطه وخطابه وآليات عمله (كيف يمكن تفسير عودته إلى الحديث عن المادة 95 من الدستور، وهي هنا عنوان للانقسام الطائفي الذي سعّره على مدى ثلاث سنوات، وحقق بسببه نتائج مبهرة على صعيد استعداء جزء كبير من اللبنانيين، بعضهم لا يكنّون للتيار الوطني الحر أي عداء؟). ومع خطابه السابق، يتمسّك باسيل بمعادلة «لا جبران = لا سعد». فإذا أصرّ الحريري على حكومة من غير سياسيين، فهذا يعني أن هذه القاعدة تشمل رئيس الحكومة المستقيل أيضاً. الخفة التي يتعامل بها أركان السلطة مع الأزمة في البلاد تظهر أن باسيل لم يجد وقتاً في الأيام الماضية للقاء الحريري، من أجل التفاوض على شكل الحكومة المقبلة، وهو انتظر انتهاء المهرجان الذي نظّمه في بعبدا أمس، ليضرب موعداً لزيارة الحريري.

السفارة الأميركية تعمل على تجميع قوى 14 آذار لتثوير البلاد ضد حزب الله