لم تكُن صلاة الظُّهر قد حانت بعد، أظنّ ذلك!
كان يومًا غريبًا، كرّر أبي النّظر إلى ساعة يده أكثر من مرّة، كان يُتابع موجز الأخبار، لعلّه كان ينتظر سماع أذان الظُّهر أو ربّما صوت المذيع ليزّف إلينا خبرًا ما!
أدّى أبي صلاته، أُمّي مُنهمكة كعادتها في المطبخ، تُعدّ لنا الفطائر، بالمناسبة أُمّي تجيد طهوها على نحو لذيذٍ للغاية.
أظنّني الآن قد قلتُ تفصيلًا ليس مُهمًًّّا، ولكن أريد تحريك ذاكرتي، يبدو أنّها لا تزال على حالها تستحضر الأشياء التي تُريدها وتعنيها فقط…
التفتت أُمّي إلى مقعد أخي الفارغ في ذلك النّهار، وقالت: “أين أخوكم يا أولاد؟”، صمتنا جميعًا! فعلًا كان مقعدهُ خاليًًّا، أُمّي لا تعاني من الألزهايمر، ولكنّ طريقتها في تذكّر الأشياء باتت ناقصة، وكأنّ خللًّا ما قد أصاب منظومة ذاكرتها في هذا الموضوع تحديدًا..
بعد صمتنا الطويل قالت: “أوه، الله يردلي ياه سالم”، كان طعامنا فارغًا، وينقصهُ الكثير من الملح، مع أنّه لم يكُن هكذا فعلًا، لكنّنا تذوقنا طعم الفقد لمُجرّد سؤالها!
لم نستمع لحظة جلوسنا على المائدة سوى طقطقة الصحون وبعض الأصوات الصادرة من أفواهنا الفارغة من الكلام، التي ملأها الصّمت فبدا صوتها أكثر إزعاجًا…
إنّهُ الخبر العاجل الذي ظهر أمام الشاشة فجأة، وأبي المُهتم جدًًّّا بمتابعة نشرات الأخبار والبرامج السياسية خصوصًا في أيام العُطلة كان يُزعجنا أحيانًا ولكنّنا لم نُظهر له شعورنا يومًا وأظنّه كان يعلم ويضحك في سرّه.
صدرَ بيان المقاومة الإسلامية الذي أُعلن فيه عن استشهاد ستة أقمار من قافلة النّصر، مُحمّد، جِهاد، محمد علي، عباس، غازي وعليّ.
بدت لنا أسماؤهم عاديّة، ولم يخطُر في بالنا أبدًا أنّ المكان الذي لم يشغلهُ أحد منذ قليل سوى الغياب، لم يشغلهُ من الآن فصاعِدًا إلاَّ الفقد الممتد من حدود القنيطرة إلى حدود بيتنا، وسيبقى المقعد خاليًًّا، سننظرهُ ونبكي، على حالنا، على من رحل!
أُمّي لا تزال تُكرّر سؤالها الذي طرحتهُ علينا منذ خمس سنوات لأنّها فقدت ذاكرتها تمامًا وأبي لا يزال ينظر إلى ساعة يده بانتظارِ نشرة الأخبار لعلّ الخبر يكون كاذبًا ويأتي ولده المُدلل مُعافى من الجُرح الذي خلّفته الغارة!
أيُّ وجعٍ هذا الذي ينتابنا ونحنُ نتفحّص طفولتكم القابعة بين أدراجنا، فتُبكينا وجوهكم الواضحة فيها وأنتم تُلقون على مسامعنا وصايا الحُب الأخيرة، ويأخذنا شبابكم إلى الفراغ الذي تركتموه على مقبضِ الباب وأنتم تُقفلون خلفكم باب الحياة بعيدًا عن الضجيج الذي يحاوطكم.
هلاَّ عُدتم! باللهِ عليكم عودوا ولو ليومٍ واحدٍ فقط، نُريد أن نزّف إليكم خبر استشهاد “جِنرال فلسطين”، أظنّهُ قد وصل إليكم، تاركًا لنا رُتبتهُ.
يا جُرحنا المفتوح بلا ضمادّة، يا وجوهنا المرتاحة بعد التّعب، يا خُبز نصرنا وصلاتنا الأخيرة، هُناك في القُدس، حيثُ لا تعب ولا جوع ولا فقر، هُناك مع وجوهكم ومع رحمة الله لنا موعد.
Check Also
غزة ما بعد العصر الإسرائيلي: قيامةٌ لا رجعة منها
يمثّل تحرير قطاع غزة من الاحتلال الإسرائيلي محطّة مضيئة في الصراع المستمرّ مع العدو، كونه …