تسبّبت الإحتجاجات الشعبيّة الواسعة التي تفجّرت إعتبارًا من 17 تشرين الأوّل الماضي، والتي لا تزال مُستمرّة حتى اليوم، بضرر كبير للقوى السياسيّة المُختلفة على الساحة اللبنانيّة. لكنّ حجم الضرر المّذكور تفاوت بشكل كبير، ولعلّ أكبر مثال على ذلك يظهر من خلال المُقارنة بين واقع كلّ من “الثنائي الشيعي” و”تيّار المُستقبل”.
وفي هذا السياق، وبالنسبة إلى “الثنائي الشيعي” فهو نجح في سحب أنصاره الذين كانوا قد شاركوا في الإحتجاجات، خلال الأيّام الأولى للإنتفاضة الشعبيّة، من الشوارع، وتمكّن “حزب الله” من إقناع مؤيّديه بأنّ جزءًا من الحراك يستهدف “المُقاومة” وسلاحها، والبيئة الحاضنة لها، ويجب مُواجهة هذا الأمر. ونجَح “الثنائي الشيعي” أيضًا في تضييق الخناق على التظاهرات المَحدودة التي جرت في بعض المناطق ذات الأغلبيّة السُكّانية الشيعيّة، قاطعًا الطرق على نجاحها في التحوّل إلى كرة ثلج مُعارضة، علمًا أنّه إستخدم كل الوسائل لتحقيق هذا الهدف، بما فيها إبقاء المُتظاهرين المُعترضين تحت ضُغوط تهديدات الأنصار المُؤيّدين. وذهب “الثنائي الشيعي” بعيدًا في توجيه قسم من المُتظاهرين نحو حاكم مصرف لبنان والمصارف عُمومًا، في إطار معركة “حزب الله” المَفتوحة على العُقوبات الأميركيّة التي كانت المصارف اللبنانيّة قد تلقّفتها وبدأت بتنفيذها بحذافيرها، الأمر الذي أضرّ بكل المصالح الماليّة المُرتبطة بشكل أو بآخر ببيئة “حزب الله”.
وعلى الخطّ السياسي، وفي الوقت الذي نجح فيه “الثنائي الشيعي” في إظهار نفسه بموقع المُسهّل لولادة الحُكومة الجديدة، وبأنّ العقبات التي أخّرت “الولادة” جاءت من باقي الأطراف، فإنّ الواقع الحقيقي يُظهر فائض القُوّة الذي بات “الثنائي الشيعي” يستفيد منه على الساحة الداخليّة. ففي الوقت الذي كانت فيه مُختلف القوى السياسيّة التي قرّرت دعم حكومة حسّان دياب، تتصارع لحجز مكان لها فيها، ولنيل هذه الوزارة أو تلك، فرض “الثنائي الشيعي” مشيئته على خطّها، فحدّد حجم مُشاركته، وإختار الوزارات التي يريد، وفي طليعتها وزارة المالية في مُحاولة لتثبيت أحقّية الطائفة الشيعيّة بهذه الوزارة الأساسيّة لتسيير شؤون الدولة كعُرف دائم، ورفض إعطاء رئيس الحُكومة المُكلّف سلفًا أسماء الوزراء الذين إختارهم، بعكس باقي القوى التي قدّمت أسماء عدّة، سقطت مرّات عدّة وإستبدلت بأخرى مرّات عدّة أيضًا، في مرحلة مخاض التأليف!.
في المُقابل، جرى إخراج “تيّار المُستقبل” ورئيسه سعد الحريري، تحت وطأة الضُغوط من جهة، والشروط التي لا يُمكنه تقبّلها من جهة أخرى، وُصولاً إلى منحه تأييدًا نيابيًا هشًّا جدًا، أرغمه على الإنسحاب، بغضّ النظر عن دور حزب “القوات اللبنانيّة” في هذا السياق، والذي ينطلق من إعتبارات مُختلفة تمامًا عن إعتبارات تحالف “التيّار الوطني الحُرّ” مع قوى “8 آذار”. وصار أقصى ما طمح إليه رئيس “تيّار المُستقبل” من الناحية السياسيّة حاليًا، هو عدم تعيين وزير داخليّة خصم، وكذلك عدم قيام الحُكومة الجديدة بإستبدال شخصيّات أساسيّة مَحسوبة بشكل أو بآخر عليه، على غرار مُدير عام قوى الأمن الداخلي اللواء عماد عُثمان، وحاكم مصرف لبنان رياض سلامة، وكذلك عدم مُحاكمة وزراء ومسؤولين ينتمون إلى “التيّار الأزرق”، على غرار رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة، والوزير في الحُكومة المُستقيلة محمد شقير، إلخ.
ومُعاناة “تيّار المُستقبل” لا تقتصر على ضُمور دوره وتأثيره ونفوذه على المُستوى السياسي الداخلي، بل يشمل تضعضع قواعده الشعبيّة بشكل كبير، وضياع مُناصريه. وفي هذا السياق، لم يعد يعرف مُناصروه ما إذا كان يجب أن يُطالبوا بعودة الحريري إلى الحُكم أو بإقصائه، وما إذا كان يجب التظاهر ضُدّ السُلطة وكلّ رموزها أم الدفاع عن “تيّار المُستقبل” وعن الطائفة السنّية، إلخ. والضياع طال رئيس “تيّار المُستقبل” نفسه الذي يدين تارة تظاهرات الإحتجاج المُشاغبة ثم يُحاول تارة أخرى تفهّم وتقبّل ما جرى. ولم يعد يعرف رئيس ما إذا كان يجب إرضاء أهل العاصمة بيروت، أم أهل طرابلس وعكّار والشمال ككلّ! والأكيد أنّ الحملات السياسيّة من قبل خُصوم “المُستقبل” والتي تُحمّل “السياسة الحريريّة” منذ العام 1992 حتى اليوم، مسؤوليّة الإنهيار الحالي، لا تُساعد في إستعادة “المُستقبل” لتأييد قاعدته الشعبيّة التي باتت ترزح بأغلبيّتها تحت وطأة البطالة والفقر!.
في الختام، صحيح أنّ “الثنائي الشيعي” قرّر التخفيف من توتّر رئيس “تيّار المُستقبل”، وتكليف رئيس مجلس النوّاب نبيه برّي نقل رسائل التطمين له، تجنّبًا لإندفاعه مُستقبلاً في خط مُعارضة السُلطة، إلا أنّ الأصحّ أنّ هذه التطمينات لن تُعيد للحريري، لا نُفوذه السياسي ولا شعبيّته! والطريق نحو إستعادة “تيّار المُستقبل” ما فقده، يبدأ بإعادة تنظيم صُفوفه الداخليّة، ويمرّ بوضع سياسة إستراتيجيّة واضحه بعيدًا عن التردّد والمواقف الرماديّة وحتى عن الضُعف في إتخاذ القرارات الحازمة، ولا ينتهي عند إعادة نسج تحالفات سياسيّة على أرضيّة إستراتيجيّة ثابتة وواضحة، كما كان الأمر عليه أيّام قوى “14 آذار”، ومع الأركان الأساسيّين لهذه القوى السابقة، وفي طليعتها حزبيّ “القوات اللبنانيّة” و”التقدّمي الإشتراكي”.