“إعادة هيكلة الدين العام”… عبارة طنّانة بتنا نسمعها دوريًا، حيث يعتبر بعض الإقتصاديّين أنّها خطوة ضروريّة، في حين يعتبر آخرون أنّها مصير حتمي ينزلق لبنان نحوه، علمًا أنّ فئة ثالثة من الإقتصاديّين تُحذّر منها. والسؤال الذي يشغل بال اللبنانيّين، في حال إعادة هيكلة دين الدولة–طوعًا أم إلزاميًا، بهدف تأجيل تسديد دُيون وفوائد مُستحقّة على لبنان، ما هو مصير رواتب القطاع العام، وماذا عن الضرائب والرسوم؟.
بداية، لا بُد من التذكير أنّ واقع لبنان المالي الصعب جدًا، يستوجب إجراءات قاسية وغير تقليديّة على الإطلاق، للتمكّن من مُواجهة الأزمة المُستفحلة.
ويُمكن إختصار أبرز المشاكل الماليّة المُلحّة على الشكل التالي:
أوّلاً: إنخفاض الإيرادات بلغ خلال العام 2019 السابق ما لا يقلّ عن 30 % مُقارنة بإيرادات العام 2018 الأسبق، ومن شأن إستمرار جُمود الدورة الإقتصاديّة خلال العام 2020، أن يتسبّب بمزيد من الإنخفاض!.
ثانيًا: نسبة العجز المُتوقّعة في المُوازنة التي يبلغ حجمها 19000 مليار ليرة لبنانية، قد تبلغ 7 % من إجمالي الناتج المحلّي.
ثالثًا: مُشكلة لبنان الكُبرى تكمن في الحجم الكبير للتسليفات من جانب مصرف لبنان للدولة اللبنانيّة، علمًا أنّ أموال مصرف لبنان هي من المصارف، وأموال المصارف هي من المودعين! وقد بلغت حصّة مصرف لبنان 55% من مجموع الدين العام بالليرة اللبنانيّة، و12% من إجمالي سندات الدين بالعملات الأجنبيّة (يوروبوندز) في خرق لعدد من القوانين، وفي مُخالفة واضحة لأبسط معايير الإستقرار المالي!.
رابعًا: على لبنان سداد إستحقاقات لا تقلّ قيمتها عن 2,5 مليار دولار أميركي خلال العام الحالي، منها 1,2 مليار دولار في 9 آذار المُقبل، علمًا أنّ سندات لبنان المُقوّمة بالدولار الأميركي تهاوت أكثر من مرّة، قبل أن تعود وتتحسّن قليلاً في المرحلة الأخيرة.
خامسًا: توقّف الدورة الإقتصاديّة عن الدوران بشكل شبه كامل، مع إستثناءات محدودة، وإرتفاع البطالة إلى مُستويات غير مسبوقة، وتقلّص القُدرة الشرائية للبنانيّين بما لا يقلّ عن 34% حتى تاريخه، والحبل على الجرّار، وذلك بالتزامن مع زيادة هجرة اللبنانيّين إلى الخارج بنسبة 42%، حيث أنّ 62000 لبناني غادروا لبنان بشكل نهائي في العام 2019.
سادسًا: ضرب الثقة بالقطاع المصرفي بشكل خطير، وتحوّل المصارف إلى صُندوق لسحب أموال المُودعين بنسب مَحدودة ومُذلّة، في حين لم ينجح قرار تثبيت سعر صرف الدولار لدى الصرّافين عند عتبة ألفي ليرة للدولار الواحد. من جهة أخرى، ليس بسرّ أنّه يتمّ حاليًا إجراء دراسات وتحضيرات لإحتمال حُصول عمليّات دمج بين عدد من المصارف، للتمكّن من مُواجهة الأزمة، خاصة في ظلّ عجز بعض المصارف الصغيرة عن رفع رأس مالها بنسبة 20%، ولأنّ السوق اللبناني كان غارقًا بعدد لا يقلّ عن 65 مصرفًا، بشكل يفوق حجمه ومُتطلّباته بكثير.
سابعًا: إنّ تأثير العُقوبات الأميركيّة على “حزب الله” مُستمرّ، في حين تربط الدول العربيّة والغربيّة مُساعداتها المُفترضة للبنان، بشروط سياسيّة حينًا وإقتصاديّة-إصلاحيّة حينًا آخر، علمًا أنّ لبنان يحتاج إلى ما لا يقلّ عن 5 مليار دولار بشكل عاجل وفوري للصُمود.
وفي ظلّ هذا الواقع، على الدولة اللبنانيّة–بحسب الخبراء الإقتصاديّين، العمل على تأمين تمويل خدماتها وإستحقاقاتها، بالتزامن مع العمل على إحياء أعمال القطاع الخاص من جديد، وكذلك مع العمل على إنشاء شبكة أمان إجتماعية لمُؤازرة ذوي الدخل المَحدود. لكن ما سبق، يتطلّب تأمين الأموال غير المُتوفّرة. فهل يكون الحلّ بإعادة هيكلة الدين العام؟.
من المُمكن طلب المُساعدة من الصندوق الدولي، عبر إختيار أحد برامج المُساعدة التي يُوفّرها، لكن هذا الأمر يُعتبر مُؤشّرًا سلبيًّا يُقارب بسيّئاته مسألة إعلان إفلاس الدولة وعجزها عن الوفاء بإلتزاماتها! والمسألة تستوجب الذهاب إلى المجلس النيابي لإقرار قانون جديد عملاً بالدُستور اللبناني، وتحديدًا المادة 88 منه، والتي تشترط مُوافقة المجلس النيابي على أيّ إلتزام مالي للدولة اللبنانيّة. إشارة إلى أنّه وإضافة إلى الضرر المَعنوي الذي سيلحق بلبنان، تكمن المُشكلة الأخرى في أنّ الصندوق الدولي يفرض مجموعة من الشروط قبل مدّ يد المُساعدة، لتمكين الدولة المعنيّة من إعادة التوازن إلى ماليّتها العامة على المدى المتوسّط، ولزيادة إيراداتها على المدى البعيد. وفي هذا السياق، سيكون على الدولة الإنتقاء من بين باقة من الخيارات القاسية وغير الشعبيّة على الإطلاق. ومن بين الخيارات التي سيتم طلبها من لبنان، للإختيار من بينها:
أوّلاً: رفع الضرائب، وفي طليعتها زيادة ضريبة القيمة المُضافة إلى 15%-كما هو مُعتمد في عدد كبير من دول العالم، مع فارق جذري في الخدمات التي تُقدّمها الدولة اللبنانيّة لمواطنيها وتلك الدول لمواطنيها!.
ثانيًا: وقف كل أشكال الدعم المالي من جانب الدولة، عن شركة كهرباء لبنان الغارقة تحت عجز كبير، وعن المازوت، والقمح، وإعادة دراسة برامج التقديمات الصحيّة والإجتماعيّة وبرامج التقاعد، إلخ.
ثالثًا: زيادة مجموعة من الرسوم والضرائب، وربما إحداها على صفيحة البنزين التي تؤمّن عائدات فوريّة.
رابعًا: خفض أجور كل العاملين في القطاع العام والمؤسّسات العسكريّة مُجدّدًا، بما يتناسب مع قُدرة مالية الدولة على دفع الرواتب.
خامسًا: وقف كل مزاريب الهدر، ومُحاربة الفساد في الدولة وفي قطاعاتها المُختلفة، ومُكافحة التهرّب الضريبي على أنواعه، إلخ.
سادسًا: “خصخصة” العديد من المرافق، لتأمين أموال نقدية سريعة من شركات إستثماريّة ومن رجال أعمال مُقتدرين. ولائحة الخيارات يُمكن أن تشمل على سبيل المثال: شركة طيران الشرق الأوسط، كازينو لبنان، مؤسّسة كهرباء لبنان، أوجيرو، المرفأ، المطار، إلخ.
في الخُلاصة، أيّا تكن الخيارات التي قد تلجأ إليها الدولة، من بين العديد من الشروط المَطروحة، للحُصول على مُساعدات مالية عاجلة، الأكيد أنّ اللبنانيّين لا يُمكنهم تحمّل وزر أي من هذه الإجراءات–حتى لو جرى الإكتفاء بجزء منها، ومهما جرى تجميلها عبر الحديث عن مرحلة زمنيّة قاسية ومُوجعة قصيرة، على أن يبدأ الوضع الإقتصادي العام بالتعافي على المدى المتوسّط، وعلى أن تنشط الأعمال وتنخفض نسب البطالة مُجدّدًا على المدى الطويل. وبالتالي، المَطلوب عدم اللجوء إلى خيار إعادة هيكل الدين العام، واللجوء إلى خيارات بديلة، لا تمسّ برواتب القطاع العام، ولا ترفع أي ضريبة، بدءًا بوقف الهدر والشروع في مُكافحة الفساد والفاسدين فعلاً لا قولاً!.
النشرة