بصرف النظر عن الإلزام الدستوري بعقد جلسة مناقشة البيان الوزاري للحكومة والتصويت على الثقة بها، ومهما كان حجم الصخب الذي سيرافقها إن من داخلها عبر مداخلات النواب وما تتضمنه من جَلد للجسم الحكومي الجديد، او من بعض مكوّنات الحراك، التي قرّرت ان تُزامِن الجلسة بخطوات تصعيدية متتالية تبقي الحكومة في حال عدم استقرار وتمنع عليها النوم على حرير تأليفها بالطريقة التي حصلت فيها – وقد بدأتها بالأمس عبر بعض المسيرات الراجلة والسيّارة في بيروت وبعض المناطق، بالتزامن مع استقدام باصات من المحتجّين من الشمال تحديداً، تمهيداً لقطع الطرقات وإغلاق مداخل مجلس النواب اليوم – فإنّ هذه الجلسة هي جلسة تحصيل حاصل، وفي أحسن الاحوال لزوم ما لا يلزم، ونتيجتها محسومة سلفاً، والثقة التي ستنالها بات متّفقاً عليها بأنها هزيلة بامتياز.
هذه المحطة الإلزامية للحكومة، التي توجِب عليها الاستحصال من مجلس النواب على سِمة الدخول الى ميدان العمل التنفيذي، تبدو وقائعها وما يحيط بها جليّتان قبل انعقاد الجلسة، من حيث الاجراءات الامنية الاستثنائية التي ستتخذ في محيط المجلس تمكيناً لوصول النواب الى ساحة النجمة، وقد أعلنت قيادة الجيش عن اتخاذ وحداته إجراءات أمنية استثنائية في محيط المجلس والطرقات الرئيسية والفرعية المؤدّية إليه، ودعت المواطنين إلى التجاوب مع التدابير المتخذة وعدم الإقدام على قطع الطرقات إنفاذاً للقانون والنظام العام، وحفاظاً على الأمن والاستقرار، مؤكّدة على دورها في حماية مؤسسات الدولة والاستحقاقات الدستورية، كما على أحقّية التظاهر والتجمّع السلمي في الساحات العامة”.
أربعون حتى الآن
وتبدو وقائع الجلسة جلية أيضاً من حيث المداخلات النيابية، التي قارب عدد طالبي الكلام في الجلسة الـ40 نائباً، وهو عدد قابل للارتفاع، كما للانخفاض ايضاً. ومعظم هذه المداخلات انهمك أصحابها عشيّة انعقاد الجلسة في تضمينها أنياباً للنَهش في جسم الحكومة انطلاقاً من بيانها البيان الوزاري وما يعتريه من ثغرات مَشكو منها بوصفها مُسبباً، وعاملاً مُفاقماً للازمة المالية والاقتصادية التي يعاني منها، والتي قدّمت من خلالها اشارة شديدة السلبية لبعض فريق اللون الواحد الذي ألّف الحكومة، قبل معارضيها، وأحاط بالتشكيك الاسم الذي أطلقته على نفسها: حكومة مواجهة التحديات!
”لسعٌ” كهربائي
واذا كان الشق الاقتصادي والمالي سيشكل نقطة مركزية تلتقي عندها المداخلات النيابية الموالية والمعارضة، لناحية تشخيص الازمة ومخاطرها والمستوى الانحداري الذي بلغته، مع إلقاء كرة المسؤولية على الحكومة لابتداع الحلول التي تضع البلد على سكة الانفراج، الّا انّ الشق الكهربائي كما هو وارد في البيان الوزاري، هو أشبَه بـ”سلك مُزلّط”، سيلسَع الحكومة من الجانبين الموالي والمعارض لها. امّا سبب “اللسع”، فلأنّ الحكومة سقطت في أول اختبار، حينما حادت سريعاً عن الخط الاصلاحي التي قالت انها ستسلكه بأداء جديد جدي ونوعي، وخضعت راضية او بالإكراه وتحت الضغط لمشيئة مستويات رفيعة في الدولة وأحزاب محسوبة عليها، وتبنّت خطة الكهرباء بكلّ علّاتها، كما أقرّت في عهد الحكومة السابقة، لتستفزّ بذلك، ليس المعارضة فقط، بل بعض أهل الحكومة، وفي مقدمهم رئيس مجلس النواب نبيه بري الذي صَرّح علناً برفضه هذه الخطة لأنها محمّلة على ظهر “بواخر الكهرباء”، و”إن ارادوا السير بها، فمن الآن نقول انّ هذه البواخر لن تصل الى الجنوب حتى لو سَهر الجنوبيون لياليهم على القناديل”.
مداخلة المطرانية
ولعل الأهم في هذا السياق “مداخلة المطرانية”، التي عكستها عظة راعي أبرشية بيروت للموارنة المطران بولس عبد الساتر في قداس عيد مار مارون في مطرانية الموارنة في وسط بيروت، امس الاول الاحد، وبمضمونها القاسي الذي توجّه فيه الى الطبقة السياسية.
شارك في القداس رئيس الجمهورية العماد ميشال عون ورئيس مجلس النواب نبيه بري ورئيس الحكومة حسان دياب، وجمع من الوزراء والنواب والشخصيات، وتوجّه المطران عبد الساتر الى الرؤساء الثلاثة قائلاً: “لأجلكم نصلّي في صباح هذا العيد، حتى يكون ذكركم طيّباً وحياتكم مثمرة. أيها السياسيون إننا ائتمنّاكم على أرواحنا ومستقبلنا، تذكروا أنّ السلطة خدمة. نريد أن نحيا حياة إنسانية كريمة وقد تعبنا من المُماحكات العقيمة. نحن قلقون على مستقبل أولادنا لذا نريد مبادرات تبثّ الامل وخطابات تجمع وأفعالاً تبني، نريدكم قادة مسؤولين”.
أضاف: “ألا يحرّك ضمائركم نحيب الام على ولدها الذي انتحر أمام ناظريها لعَجزه عن تأمين حاجات اولاده؟ ألا يستحق عشرات الالوف من اللبنانيين الذين انتخبوكم أن تُصلحوا الخلل في الاداء السياسي والاقتصادي والمالي، وأن تعملوا ليل نهار مع الثوار الحقيقيين على إيجاد ما يؤمن لكل مواطن عيشة كريمة، والّا فالاستقالة أشرف، فماذا تنتظرون؟
وقال: “ليس زعيماً من يحسب الوطن ملكية له ولأولاده من بعده ويحتكر السلطة ويظلم من وثقوا به. الزعيم الاصيل هو الزعيم الوطني، هو الذي يقاوم التوطين والتجنيس، وهو الذي يختار الرحيل على ان يخذل شعبه او أن يُسيء إليه”.
حضور وغياب
على انّ اللافت للانتباه هو انّ جلسة مناقشة البيان الوزاري ستكون حاشدة، فعشيّة الجلسة قررت جهات نيابية عدم الحضور، لكن لكل منها أسبابه. فكتلة حزب الكتائب النيابية (3 نواب)، لن تحضر الجلسة بل قررت ان تكون مع الناس، كما أعلن رئيس الحزب النائب سامي الجميّل. كذلك قررت كتلة الرئيس نجيب ميقاتي عدم الحضور وحجب الثقة عن الحكومة “لأننا غير مقتنعين بقدرتها على العمل والانجاز”.
وتحت ذات العنوان قرّر بعض النواب المؤيدين للحراك الشعبي عدم الحضور، فيما أعلن الحزب القومي عدم حضور الجلسة، أمّا السبب فهو عدم تمثّله في الحكومة، ورَفضُ طلبِه بالتمثّل في الحكومة عبر وزير مسيحي، فيما المعلوم انه أثناء تشكيل الحكومة عُرض عليه التمثّل بوزير درزي، فرفض. وما خلا ذلك، فإنّ سائر الكتل ستكون حاضرة في الجلسة، الى جانب نواب الموالاة، وحجزت ادوارها على منبر الخطابة، ككتلة تيار المستقبل، وكتلة “القوات اللبنانية” (الجمهورية القوية)، وكتلة اللقاء الديموقراطي.
تقاطعات
واذا كانت مداخلة او مداخلات “القوات اللبنانية” في الجلسة تقف في موقع القاطع الأمل بالحكومة الجديدة، وبتمكّنها من إيجاد العلاجات المطلوبة للأزمة، وبالتالي ليست جديرة بالثقة، خصوصاً وانها أعطت من خلال طريقة تشكيلها او إعدادها البيان الوزاري انها ما زالت عالقة ومرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالنهج السابق المسبّب للأزمة، فإنّ مداخلات المستقبل واللقاء الديموقراطي، وعلى الرغم من عدم منحهما الثقة، تنطلق من قاعدة إعطاء الفرصة للحكومة لعلها تتلمّس المخارج للازمة، ومعارضتهما لها ترتكز على قاعدة تقدير العمل الصائب للحكومة إذا أقدمت عليه، والتصويب على الخطأ إن ارتكبته.
وتتقاطع مداخلات المستقبل والديموقراطي، مع مداخلات تكتل لبنان القوي وكتلة التحرير والتنمية، وكتلة الوفاء للمقاومة وكتلة تيار المردة، عند نقطة إعطاء الفرصة للحكومة. ولفت في هذا السياق موقفان لكتلتي “الثنائي الشيعي” اللذين أكدا انّ الثقة الصلبة بالحكومة، تبنى من خلال العمل الذي ستقوم به والانجازات التي ستحققها، بالاستفادة من كل العثرات التي كان يُشكى منها في السابق. فحجم هذه الثقة يكبر مع كبر الانجازات وأولوياتها ومدى ايجابياتها على الناس واخراجهم من الازمة، ويصغر حتماً اذا كان العمل المنتظر من الحكومة دون مستوى التوقعات ومخيّباً للآمال المعلقة عليها.
ماذا بعد؟
والجلسة، وبحسب الدعوة الموجهة الى عقدها من قبل رئيس المجلس، محدّدة مبدئياً بيومين بـ4 جولات نهارية ومسائية، ومنقولة وقائعها مباشرة على الهواء، الّا انها مرشّحة للتمديد الى يوم الخميس، تِبعاً لعدد النواب المتكلمين، علماً انّ رئيس المجلس قرر تحديد أمد الخطابة لكل نائب: ربع ساعة للنائب الذي يتكلّم كتابة، ونصف ساعة للنائب الذي يتكلّم ارتجالاً. مع الاشارة الى انّ جهوداً مجلسيّة تُبذل لإقناع الكتل النيابية بانتداب نائب واحد للتكلم باسمها، خصوصاً انّ بعض الكتل قررت انتداب أكثر من نائب للخطابة في الجلسة.
في أيّ حال، الثقة محسومة هذا الاسبوع، وستنزل بعدها الحكومة الى الميدان، وأمامها كما هو واضح عمل شاق في شتى المجالات. ومن هنا تحدث بعض الوزراء عن عقد جلستين لمجلس الوزراء اسبوعياً، على ان تعقد أولى الجلسات الاسبوع المقبل.
وقالت مصادر وزارية لـ”الجمهورية” انّ الأولوية امام الحكومة ما بعد نيلها الثقة، هو إنهاء ملف سندات اليوروبوند، وهو ملف يبدو شائكاً ومُحرجاً للحكومة، حيث يتجاذب هذا الملف إشارات خارجية تحذّر لبنان من عدم تسديدها في مواقيتها، وكذلك اعتراضات داخلية تطالب بالأخذ بمصلحة البلد أولاً، وقياس ما اذا كانت تتأمن بالسداد او تأخيره، ولعل الصوت الأعلى هو الصادر عن المودعين الذين يتهمون الدولة ومصرف لبنان بمصادرة ودائعهم ومدّخراتهم ودفعها للسندات، بدل ان تدفع لهم. الّا انّ التوجّه الثابت في هذا السياق، هو نحو تسديدها في مواعيدها بدءاً من آذار المقبل (مليار و200 مليون دولار).
إستحقاق الكهرباء
وفور نيلها الثقة، ستكون الحكومة على موعد مع استحقاق ملف الكهرباء، وهو من أكثر الملفات حساسية في موضوع الانقاذ المالي والاقتصادي. ولأنّ الحكومة اختارت أن تُبقي القديم على قدمه، وأن تتبنّى خطة الكهرباء القائمة التي وضعتها الحكومة السابقة، فإنها ستكون في مواجهة حقائق جديدة تعكس وجود شوائب نافرة في الخطة المذكورة.
واستناداً الى مراسلات بين وزارة الطاقة والمياه وادارة المناقصات مستمرة منذ بضعة اشهر، حصلت “الجمهورية” على نسَخ منها، يتبين انّ الخطة عالقة، بعد انتقادات وملاحظات وضعتها ادارة المناقصات التي استعانت بخبراء من الاتحاد الاوروبي لإجراء التقييم. ومن خلال ردود وزارة الطاقة يتبيّن انّ الملف عالق حتى الآن.
لذلك، سيكون مطلوباً من مجلس الوزراء حسم هذا الموضوع من خلال احتمالين: الاصرار والتصويت لمصلحة متابعة تنفيذ الخطة رغم الشوائب الموجودة فيها والموثّقة في تقارير ادارة المناقصات، أو التراجع عن الخطة لمصلحة تغييرها أو تعديلها، مع ما قد يستتبع ذلك من احتمالات مواجهة مع الطرف السياسي الذي يرعى هذه الخطة ويحميها.
إتصالات
والجديد في الملف الكهربائي، انّ الساعات السابقة لانعقاد جلسة مناقشة البيان الوزاري شهدت حركة اتصالات بين مكوّنات الحكومة للتخفيف من وطاة النص المتعلّق بالكهرباء في البيان، وتلقّى عدد من المسؤولين طلبات مِن قبل معنيين في وزارة الطاقة، بتزويدهم بالافكار التي من شأنها إغناء خطة الكهرباء وتحصينها وتنقيتها من بعض الثغرات. ومن بين هذه الافكار، ما طرحه بعض الوزراء حول ”زَحلَنة الكهرباء”، ريثما نصل إلى علاج نهائي لاهتراء الكهرباء، فيما علم انّ افكاراً جديدة قد تبلورت لدى معارضي الخطة، ويدعمها الرئيس بري، وتتجاوز اقتراح “الزَحلنة” الى ما هو اكثر ايجابية منه، عنوانها المعامل، وستتم إثارتها في جلسة المناقشة.
وفي هذا الموضوع، قالت مصادر وزارية لـ”الجمهورية”: بصرف النظر عمّا اذا كانت خطة الكهرباء “نظيفة” وتلبّي المطلوب لانقاذ قطاع الكهرباء، او تعتريها ثغرات او شبهات، فإنّ لبنان لا يحتمل بوضعه الكهربائي الراهن ايّ خطط طويلة الأجل او متوسطة الاجل تُبقي على مزراب العجز في الخزينة مفتوحاً كما في السابق، بل هو بحاجة الى خطوات سريعة تصل الى الحل النهائي لأزمة الكهرباء في مهلة زمنية تتمحور بين 6 أشهر الى سنة على الاكثر، وفكرة انشاء معامل صغيرة بقوة 200 او 300 ميغاوات قد تكون هي الحل الامثل القابل للترجمة خلال هذه المهلة. والشرط الاساس هو المسارعة قبل كل شيء الى تعيين الهيئة الناظمة لقطاع الكهرباء، فهذا شرط أساس للنجاح، فضلاً عن انه احد أهم الشروط الاصلاحية المطالب بها لبنان من المؤسسات الدولية، اي من سيدر وغيره، وليس إبقاء هذا الأمر معلّقاً، كما كان عليه الحال في السنوات الماضية وإبقائه مربوطاً بتعديل القانون 432.
التياران متوتران
في جانب سياسي آخر، ارتفعت العلاقة بين تيار المستقبل والتيار الوطني الحر الى درجة عالية جداً من التأزّم والتوتر، جرى التعبير عنها بسجال عنيف بينهما قبل ساعات من انعقاد جلسة البيان الوزاري.
ولفت في هذا السياق، انتقادات لاذعة وجّهها الرئيس سعد الحريري في اتجاه التيار الوطني الحر، تبعتها ردود عنيفة من نواب التيار على الحريري، فيما برز المضمون الحاد للبيان الذي أصدره المكتب السياسي بنبرته العنيفة جداً في اتجاه التيار الوطني الحر من دون ان يسمّيه، حيث رأى “أننا نعيش الآن في ظروف سياسية شبيهة بما كانت في تسعينات القرن الماضي من معارك عبثية إلغائية بخطاب عنصري وطائفي بغيض يتميّز بشعبوية ساذجة تتوَهّم القدرة على اعادة عقارب الساعة الى الوراء، بحثاً عن زعامة واهية مُتأتية من عقدة نقص تجاه زعماء وقامات طبعوا تاريخ لبنان الحديث بما يليق به من رسالة مميزة في هذا الشرق، فكانوا رجالات دولة عزّ أمثالهم”.
التيار يرد
وردّ التيار الوطني الحر على بيان المستقبل، معلناً انّ “بيان تيار المستقبل هو بيان إفلاس هدفه شَد العصب لمناسبة 14 شباط واختلاق معارك وهمية حول إلغاء الحريرية، في حين ليس هناك من يعمل اطلاقاً على إلغائها سوى من يتفوّه بهكذا كلام تحريضي فيه حقد غير مبرّر على مكوّن لبناني بكامله يظنّ انه لا يزال قادراً على استضعافه كما فعل سابقاً”.
وأشار التيار الى انه “لا يعتبر نفسه معنيّاً بالردّ على هذه المطوّلة التاريخية المشوّهة، بل يترك للرأي العام ان يحكم من هو الطرف الذي أمسَك بالقرار المالي والاقتصادي منذ العام 1992 ولا يزال، فأدار البلد وأفلسه”.