في وقت يصعّد أصحاب الأفران والمخابز مواجهتهم مع الناس بحجة أن عملهم أصبح «خسّيراً»، يقدمون «أسعاراً تشجيعية» لمؤسسة الجيش ببيعها ربطة الخبز الأبيض زنة 1000 غرام بما يتراوح بين 900 و1100 ليرة! هذه الازدواجية تشير بوضوح إلى أن كارتيل الأفران يعمل ضمن معادلة رابح – رابح، وأن «الخسارة» التي يتحدث عنها هي مجرد تقليص في هامش الربح
أمس، عادت الأفران إلى مزاولة عملها وكأنّ شيئاً لم يكن. لكنها عودة «غير مفتوحة»، في انتظار ما سيؤول إليه اجتماع اتحاد نقابات أصحاب الأفران والمخابز بوزير الاقتصاد والتجارة راوول نعمة اليوم. علماً أن «القلوب المليانة» تخفّف من منسوب التفاؤل بالنتائج. فأصحاب الأفران متمسكون بـ«مظلوميّتهم»، والتفاوض مع الوزارة بالنسبة إليهم لا يخرج من إطار خيارات ثلاثة: إما رفع سعر ربطة الخبز التي تزن ألف غرام، أو خفض وزنها، أو دعم الدولة لمادة القمح. بهذه الخيارات، يكمل «كارتيل» الأفران والمخابز مواجهة الناس في لقمة عيشهم.
وهو يفعل ذلك ليس خوفاً من الخسارة، وإنما خشية تناقص أرباحه. وهذا ما يؤكده «الانفصام» الذي يعيشه هؤلاء. ففي وقت يستشرسون في الدفاع عن خفض وزن ربطة الخبز أو زيادة سعرها بحجة أنها «خسّيرة»، قدموا عروض أسعار لمؤسسة الجيش لبيعها «الربطة» نفسها بالجملة بسعر يبدأ بـ900 ليرة لبنانية ويصل إلى 1100 ليرة كحدّ أقصى. هذه الازدواجية تطرح أسئلة عدة: لِمَ هذا الفارق في السعر بين الجيش والمواطنين؟ هل يبيع أصحاب الأفران المؤسسة العسكرية بأقل من سعر الكلفة؟ كم تبلغ كلفة إنتاج ربطة الخبز فعلياً؟ وكم يراكمون من الربح؟
من الطبيعي ألا يجيب أصحاب الأفران على هذه الأسئلة التي تمسّ «تجارتهم». لكن، بحسب مصادر وزارة الاقتصاد والتجارة، «يصاب المرء بالذهول عند النظر إلى لوائح الأسعار المقدّمة للجيش». صحيح أن الوزارة لم تحدّث دراسة كلفة إنتاج ربطة الخبز التي أصدرتها قبل نحو شهرين، إلا أن ما هو مؤكّد، بحسب مصادرها، أنه «حتى مع الزيادات في أسعار المواد الداخلة في إنتاج الرغيف ووصول سعر صرف الدولار إلى 2500 ليرة، لا يزال أصحاب الأفران يربحون». وما يجري اليوم هو أن «هامش ربحهم تضاءل، لكنهم لم يصلوا في أي حالٍ من الأحوال إلى الخسارة».
ثمة تأكيد آخر على هذا الربح، دراسة مستقلة حول «كلفة» ربطة الخبز «ضمن الفرن»، وخلاصتها أنه «حتى لو وصل سعر طنّ الطحين إلى 700 ألف ليرة، وهذه نسبة خيالية، ومع تأرجح سعر الدولار، رح يضلّ فيه أرباح، وأنا بحطّ إيدي بعيونهن»، يقول محمد خفاجة. وهذا الأخير من «أهل البيت»، ومن بيتٍ عاش في المطاحن والأفران، إذ كان «جدي طحّاناً وأبي صاحب فرن وأنا تاجر طحين منذ عام 1970».
بخبرته في عملية استيراد الطحين والمواد التي تُستخدم في الخبز وتوزيعها، وضع الرجل دراسة على أساس سعر طن الطحين اليوم (620 ألف ليرة)، كما يتسلمه أصحاب الأفران. ويوضح أن «كل شوال (100 كيلوغرام) طحين ينتج 120 ربطة خبز زنة 1500 غرام». قبل صعود الدولار، «كان صاحب الفرن يبيع للموزع بسعر يتراوح بين 1050 و1100 ليرة، مع الاحتفاظ بهامش ربح بحدود 400 ليرةللربطة، عدا الأرباح التي يجنيها قبل التوزيع». أما اليوم، ومع «إعادة» دمج هامش الربح من ضمن التكلفة، فـ«يبقى صاحب الفرن محتفظاً بربحه ضمن الفرن». لا يأتي خفاجة بالنتيجة من الفراغ، وإنما من «دفتر حساباته»، فهو يوزّع «أساسيات العجنة»، من طحين وخميرة. يفنّد الأسعار (على أساس سعر الصرف المتداول في السوق) كالآتي: 30 دولاراً لصندوق الخميرة (10 كيلوغرامات)، دولار للكيلو الواحد من السكر، 3 – 4 دولارات لأكياس النايلون، وهذه الأرقام وفق خفاجة، «صحيحة ولا يمكن الاعتراض عليها».
بالنسبة إلى عجنة الطن، يحتاج صاحب الفرن «الى صندوق من الخميرة و400 كيلو من السكر و7 كيلو من أكياس النايلون». بحسابات بسيطة، وعلى سعر صرف بحدود 2500 ليرة مثلاً، «يبقى الربح مضموناً». وهي، بالنسبة إلى الأفران الكبرى التي تحتكر الأسواق «أكثر من أرباح عادية»، فهذه الأخيرة تبيع وحدها يومياً بين «طنٍ و120 طنّاً»! ولهذا، «يجب أن تباع ربطة الخبز زنة 1000 غرام بـ1500 ليرة ضمن الفرن». أكثر من ذلك، يجزم خفاجة بأن هذا الرقم «يمكن تثبيته لسنوات مهما تقلّبت الأسعار»، ويدرج في دراسته «جدولاً عادلاً» للأسعار: 1500 ليرة لربطة الخبز الأبيض زنة 1000 غرام، 1000 ليرة لربطة الخبز الأبيض الصغيرة زنة 1000 غرام، 2000 ليرة لربطة الخبز المرقوق زنة 1000 غرام، 1000 ليرة لربطة خبز التنور زنة 500 غرام، 1000 ليرة لربطة خبز الشوفان زنة 500 غرام و3000 ليرة لكيلو الكعك. ولاختبار «حسن نية» صاحب الفرن، «نترك سعر الخبز الفرنجي والمخبوزات الأخرى حراً». وقد باتت هذه الدراسة في «عهدة وزارة الاقتصاد».
لا حلول إلى اليوم مع أصحاب الأفران. لكن، بحسب رئيس جمعية حماية المستهلك زهير برو، يجب «الذهاب إلى ما هو أبعد من النقاش حول سعر الربطة والتفاوض مع أصحاب الأفران. المطلوب اليوم معالجة الأسباب الأساسية لهذه الأسعار، والمتمثلة بسياسات الدولة تجاه المطاحن والأفران التي تمسك بلقمة عيش المواطن». لا يكلّ برو من طرح حلٍّ، ولو كان جزئياً، يطالب به منذ 15 عاماً، و«المتعلق بوضع جدول للتسعير كما هي الحال بالنسبة إلى جداول أسعار المازوت والغاز، نضع من خلالها كل العناصر المكوّنة لصناعة الخبز مع احتساب هامش ربح محدّد»… وإلا «خلّي الدولة تستورد». وهذه معركة آتية.
الاخبار