لم ينجح وباء كورونا في الحد من الخلافات السياسية بين اللبنانيين، على الرغم من سطوته العالمية وتهديده للحياة بشكل عام. وفي خضم الحرب الضروس ضد الوباء، برزت على الساحة اللبنانية مشكلة سياسية بثياب قضائيّة تمثلت بمشروع التشكيلات الذي رفعه مجلس القضاء الاعلى الى وزيرة العدل ماري كلود نجم، ولم تأخذ وقتاً طويلاً لتتحول الى انقسام سياسي كبير اخذ اكثر من منحى بعد ان تم اعطاؤه صورة “كباش” تجدّد بين رئيس الجمهورية العماد ميشال عون ورئيس مجلس النواب نبيه بري، فيما انضمّ الى الجوقة تيارات واحزاب سياسية ساهمت في ازدياد الهوة بين الافرقاء.
في المبدأ، كل ما حصل هو قانوني، ان لجهة رفع المجلس للمشروع بعد ان وضعه، او لجهة اعادته الى المجلس من قبل الوزيرة، ولكن القوانين تخفي وراءها صراعاً واضحاً يجدر التوقف عنده. كثيرون رأوا ان عون هو المستهدف الاول في هذه التشكيلات، فيما ردّ آخرون على انّ المطالبة بعدم مراعاة مبدأ الطائفية في التشكيلات والركون الى الكفاءة والخبرة فقط، لا يؤذي احداً ويجب ان يكون بري اول من يدعمه كونه اعلن اكثر من مرّة بشكل علني دعمه لالغاء الطائفيّة والاحتكام الى مبدأ الكفاءة والخبرة، وبالتالي لا يجب ان يعارض حصول خطوة اولى في هذا المجال، خصوصاً في خانة القضاء الذي يعتبر خط الدفاع الاول عن النهج الجديد الذي يطالب به الجميع لاثبات حصول تغيير حقيقي في التعاطي مع الازمة اللبنانية، واظهار النية الجدية للخارج في العمل على النهوض بلبنان من كبوته ودفع الدول الى مساعدته.
ليس هناك اكثر حذاقة من السياسيين عندما يرغبون في تطويع القوانين لمصالحهم، وعليه، لا يمكن الاعتماد على ايّ اجتهاد او تفسير قانوني لمعرفة من يملك الحق في موضوع التشكيلات القضائيّة، ولكن يبدو ان المواجهة بين الوزيرة ومجلس القضاء لم تصل الى ذروتها بعد، بدليل انّ التواصل بينهما لا يزال قائماً، ولكن الترقّب قد وصل الى قمّته، فهل ستندلع المواجهة ام ان الامور ستحسم مجدداً عبر التراضي؟ علماً ان العين باتت مفتوحة، ليس فقط من الداخل، بل من الخارج ايضاً، على كل المشاكل اللبنانية وفي مقدمها الصراع من اجل التغيير. ومرة جديدة، تدخل الحسابات السياسيّة لتفسد الامور، فيما يجب ان يكون الخلاف على كيفيّة تحقيق الافضل للخروج من هذه الازمة المستفحلة، الا ان التعاطي من قبل المسؤولين والمعنيين والسياسيين يبقى باستخفاف دون استشعار مرحلة الخطر التي يحمل رايتها الجميع، وما اشطرهم في دق ناقوس الخطر والتحذير من عواقبها ومن “غرق السفينة” فيما يمعنون عبر ممارساتهم وارضاء لمصالحهم، على توسيع الفجوة والمساهمة الفاعلة في عوامل الغرق. لا شك ان ملف التشكيلات سينتهي على غرار ملفات اخرى سبقته الى حلبات الصرع السياسي والطائفي والمذهبي، ولكن من الظلم البقاء على هذا المنوال وسط المتغيرات التي نشهدها والاحداث المتسارعة التي تدفعنا بسرعة الى الهاوية. انه الاختبار السياسي الجدّي الاول للحكومة، وفيه من العراقيل والصعوبات ما يكفي لجعله جديراً بالتعاطي معه بجدية كبيرة، كما انه يضع قدرة مجلس القضاء الاعلى على المحك، لجهة الخروج من الاجراءات المتّبعة منذ عقود من الزمن. الجميع مدعو اليوم الى اثبات نفسه من خلال هذا الاستحقاق السياسي (القضائي) الاول، وهو غاية في الاهميّة، لانّ القضاء نفسه لطالما اشتكى من التدخّلات السياسية والقيود الطائفية المفروضة عليه، وآن له استغلال هذا الظرف للخروج من العباءة التي وُضعت عليه قسراً.
يراهن كثيرون على ان المشكلة ستجد حلّها عن طريق الاسلوب القديم، فيما تتمسك قلّة قليلة فقط بأمل القيام بالخطوة الاولى للانتفاض على العادات القديمة السيئة، فمن سيكون الرابح؟
النشرة