كتب علي دربج في جريدة الاخبار«التهديد الأكثر ترجيحاً مرضٌ تنفسي جديد (…) مرض إنفلونزا جديد…»، عبارة واردة في خطّة صادرة عن وزارة الدفاع الأميركية، عام 2017، استعادتها صحيفة «ذا نيشن» (The Nation) الأميركية، أخيراً، لتدحض ادعاءات الرئيس دونالد ترامب بأنّ «كوفيد-19» «غافَل» إدارتَه و«كان غير متوقع». في هذه الوثيقة، حذّر البنتاغون من أنّ الولايات المتحدة قد تواجه تهديداً وبائياً، على المدى القريب، مصحوباً بنقصٍ في أجهزة التنفّس والأقنعة الواقية والأسرّة في المستشفيات.
لم تتحدث الوثيقة عن تهديدٍ مُبهم، أو عن وباء غير معروف، بل خصّت بالذكر «مرضاً تنفسياً جديداً»، وذهبت إلى تحديد اسمه في عدد من المقاطع، عندما أشارت، مثلاً، إلى أن «عدوى فيروس كورونا شائعة في جميع أنحاء العالم».
ماذا يعني ذلك؟ بكل بساطة، أنّ ترامب يكذب، بل إنّه يتخبّط في محاولاته للهروب إلى الأمام، عبر وضع اللوم والمسؤولية تارة على الصين، وطوراً على منظمة الصحة العالمية، وغيرهما.
وإن كان ذلك يعني شيئاً أيضاً، فهو أنه كان أمام الإدارة الأميركية ثلاث سنوات على الأقل للإعداد والتجهيز، تماشياً مع ما ورد في خطّة وزارة الدفاع، بدل تجاهلها.
«USNORTHCOM Branch Plan 3560: جائحة الإنفلونزا والاستجابة للأمراض المعدية»، هو عنوان مسودّة الخطة التي حملت علامة «للاستخدام الرسمي فقط»، ويعود تاريخها إلى 6 كانون الثاني 2017. وقد حصلت عليها The Nation عبر مسؤول في البنتاغون، طلب عدم ذكر اسمه.
ووفق الصحيفة، وُضعت هذه الخطة كتحديثٍ لخطة سابقة صادرة عن وزارة الدفاع للاستجابة لوباء الإنفلونزا. وهي تتضمّن «إشارات إلى تفشّي العديد من الأمراض، مؤخراً، من ضمنها متلازمة الشرق الأوسط التنفسية، في عام 2012». وتنبّأت الخطة العسكرية، بدقة غير عادية، بنقص العديد من الإمدادات الطبية التي ستؤدي إلى وفيات لا حصر لها. وذهبت إلى حدّ الإشارة إلى أن «المنافسة وندرة الموارد» ستشملان الأدوات الطبية المضادّة، مثل أجهزة التنفّس والمعدّات المتعلّقة بها، وغيرها من معدّات الحماية الشخصية، كأقنعة الوجه (الكمامات) والقفازات، ومعدّات الدعم اللوجستي»، معتبرة أن «ذلك سيكون له تأثيرٌ كبيرٌ على توافر القوى العاملة العالمية». أمّا التوقع الآخر الذي تضمّنته، فهو ما يحصل بالفعل من منافسة عالمية لإنتاج اللقاحات وندرتها.
103، هو عدد صفحات الخطّة التي لو التفت إليها ترامب وإدارته، لكانت بلاده بمنأى عن جزء كبير من تبعات انتشار وباء «كورونا» على أراضيها، وما خلّفه من أضرارٍ في الأرواح والاقتصاد، والقطاع الصحّي المتهالك أساساً… فوثيقة وزارة الدفاع تحمل في طيّاتها نظرة عامّة على ما يمكن أن يتسبّب في حدوث جائحة، والمضاعفات المحتملة لذلك، فضلاً عن كيفية ردّ الجيش على هذا الأمر. كما تُفصّل الظروف التي يمكن أن يتحوّل فيها المرض المُعدي إلى جائحة، مثل «أماكن العمل المزدحمة، والمطارات الدولية، والظروف المعيشية غير الصحية…». وخصّت الخطّة بالذكر «أسرّة المستشفيات التي قد تصبح غير كافية»، وهو ما تواجهه الولايات المتحدة، حالياً، في ظلّ نقص الأسرّة المتزايد في مستشفيات ولاية نيويورك، الأكثر تضرّراً.
الاستخبارات حذرت من خطر فيروسات الإنفلونزا على مدى عقدين على الأقل
«ذا نيشن» نقلت أيضاً عن دينيس كوفمان، الذي شغِل منصب رئيس قسم الأمراض المُعدية والإجراءات المضادة في وكالة الاستخبارات الدفاعية بين عامي 2014 و2017، قوله إن «الاستخبارات الأميركية كانت على دراية جيّدة بمخاطر الفيروسات التاجية لسنوات». وأضاف: «لقد حذّر مجتمع الاستخبارات من خطر فيروسات الإنفلونزا الشديدة الإمراض لمدة عقدين على الأقل»، موضحاً أنهم «حذروا من الفيروسات التاجية لمدة خمس سنوات، على الأقل». وفيما لفت إلى «التصريحات التي تقول إنّ جائحة الفيروس التاجي تمثّل فشلاً استخبارياً»، أعرب عن الأسف لأن ذلك «يترك الناس الذين تجاهلوا تحذيرات الاستخبارات بعيدين عن الاستهداف».
انطلاقاً من كلّ ما تقدّم، يبقى السؤال الذي يحيّر الأميركيين: لماذا لم تكن الإدارة الحالية مستعدّة لمثل هذا التهديد؟ ربّما يكون الجواب على ذلك أنّ مفهوم الأمن القومي لم يكن منصبّاً على حماية الأرواح الأميركية، بقدر ما تحوّل إلى عبارة سحرية تمّ الترويج لها، بهدف تبرير ضخّ الأموال العامّة على مقاولي الدفاع. كلّ ذلك بينما جرى إهمال الأدوات الضرورية لمعالجة الأزمات الوجودية الفعلية.
واللافت أنه رغم «توقعات» البنتاغون هذه، فإن ذلك لم يحل دون التخبط داخل الجيش الأميركي نفسه. ولعل ابرز مثال على ذلك الانتشار الكبير للعدوى على متن حاملة الطائرات «يو إس إس ثيودور روزفلت» التي أصيب بالعدوى أكثر من 580 من طاقمها المؤلف من 4800 شخص، وطريقة تعامل البحرية الأميركية مع الأزمة.
ففي 30 اذار الماضي ، كتب بريت كروزر، قائد الحاملة، رسالة إلى كبار مسؤولي البحرية يحذر فيها من أن التدابير المتخذة لحماية طاقمه من انتشار الفيروس غير كافية طالباً المساعدة. الرسالة، التي لم يتم تصنيفها، سرعان ما تسربت إلى الصحافة ونشرتها صحيفة «سان فرانسيسكو كرونيكل»، قبل أن تتناقلها وسائل الاعلام الاميركية. على الاثر، أُقيل كروزر من منصبه، وصرح وزير البحرية توماس مودلي بأن الضابط الرفيع «انتهك سلسلة القيادة». ووجّه مودلي خطابًا الى أفراد طاقم روزفلت وصف فيه كروزر بـ«الغبي». إلا أن تسرب الخطاب دفع وزير البحرية الى تقديم استقالته هو الآخر، فيما أعطى وزير الدفاع مارك اسبر توجيهاته الى القادة العسكريين للتوقف عن الإعلان عن حالات الاصابة لأن ذلك «يهدد أمن العمليات».