تعرّضت سيارة دفع رباعي لبنانية في جديدة يابوس عند الحدود اللبنانية – السورية ظهر الأربعاء الماضي لصاروخ موجّه من الجو أصابها بدقة فدمّرها. سبقه صاروخ استهدف محيط السيارة كفعل إشعار لركابها بضرورة إخلائها. انتهى الحدث- رسمياً- بإدانة الخارجية اللبنانية «للاعتداء الذي يأتي كجزء من سياسة إسرائيل العدوانية الدائمة تجاه لبنان» وبتقديم شكوى إلى مجلس الأمن، لكنه ميدانياً كان قد بدأ للتوّ.
مساء الجمعة استنفر الجيش الإسرائيلي بطريقة استثنائية على مقاطع من الحدود اللبنانية وأرفق استنفاره بإطلاق قنابل مضيئة اكتشف تحت ضيائها تمزيق السياج الحدودي في ثلاثة مواضع مختلفة، وأن بعض الفتحات التي خلّفها هذا التمزيق كانت كافية لعبور آليات. لم تتبنّ أية جهة المسؤولية عن أيٍّ من الحادثتين، وإن كانت المواكبة الإعلامية الإسرائيلية لهما كافية وحدها للدلالة القطعية على أن الأمر يتعلق بفعل إسرائيلي وردّ فعل من قبل حزب الله.
لماذا لم تُعلن إسرائيل مسؤوليتها؟ لأنها – رسمياً – تنتهج مبدأ «هامش الإنكار»، وهو من العناصر المكوّنة لـ»المعركة بين الحروب». يقضي المبدأ المذكور باعتماد الغموض إزاء العمليات التي تُنفَّذ في إطار هذه المعركة حتى يتيح للجهة المستهدفة مساحة سياسية لتجاهل الاعتداء بوصفه مجهول الفاعل، فلا تقع في حرجٍ اعتباري – أمام ناسها – قد يضطرها إلى الردّ. دأبت إسرائيل على الالتزام بهذا المبدأ على امتداد سنوات ممارستها للمعركة بين الحروب، ولم تحد عنه سوى في مرات محدودة، كانت غالباً مرتبطة باستثمار انتخابي لم يقوَ بنيامين نتنياهو على مقاومة إغرائه. أما حزب الله، فيمكن الافتراض أنه يجاري إسرائيل في مبدئها، طالما أن الاعتداء لم يجرِ تبنّيه من قبلها.
نحن إذاً أمام جولة تكتيكية، أو حتى «ميني تكتيكية» بين إسرائيل والمقاومة، يحتشد فيها – برغم محدوديتها- قدر هائل من الدلالات، التي لا بدّ أنها استُحضرت عند الجهات الفاعلة في الحدث، ولا بأس، تالياً، من الإضاءة على بعضها.
على الصعيد الظرفي، يبرز حرص مشدّد لدى كلا الطرفين على التأكيد بأن قيود المعركة العامة ضد فيروس «كورونا» وتدابيرها لا تسري على قواعد الاشتباك القائمة بينهما. تقول إسرائيل، من خلال اعتدائها، إن برامجها المتعلقة بمنع المقاومة من المضي قدماً في تطوير قدراتها النوعية لم ولن تتأثر بالجائحة العالمية، فيردّ الحزب بأن التزامه العلني بالرد على أيّ تعرض لكوادره – حتى خارج الأراضي اللبنانية- سارٍ وفعّال، حتى في ظل الجائحة إياها. والأهم، على الصعيد الردعي، أن الحزب كرّس هنا، للمرة الثانية بعد عملية «أفيفيم» أواخر الصيف الماضي، قاعدة اشتباك جديدة، كان أعلنها أمينه العام، السيد حسن نصر الله، في أيلول الماضي حول سقوط الخطوط الحمر والتأسيس «لمرحلة جديدة من الوضع عند الحدود لحماية لبنان». القصد: إن مساحة الفعل ورد الفعل لحماية لبنان ومواطنيه – وخصوصاً المقاومين منهم – لا يحددها العدو بامتيازاته العملياتية، وتالياً هي تشمل حكماً خط الجبهة (غير) الباردة عند الحدود جنوباً.
على أن الحزب مارس هنا القدر المعهود من التناسبية مع الاعتداء الإسرائيلي: وجّه العدو رسالة قدرة على قتل من كان في السيارة لو أراد (منفذاً إجراء «النقر جانباً» بصاروخٍ إنذاري)، فوجّه الحزب رسالة قدرة على دخول أيٍّ من المستوطنات التي شُقَّ السياج أمامها والرد بالمثل. مع فارق نوعي: حرص إسرائيل على عدم إسالة دماء ركاب السيارة كان مستنداً إلى حالة من «انكواء الوعي» لديها، رسّختها سوابق متراكمة من احتكاكها بالمقاومة.
عملياتياً، قدّمت إسرائيل عرضاً مكرراً من دقتها الاستخبارية والتنفيذية المشهود لها فيهما، فعمدت المقاومة إلى تقديم عرضٍ مشوقٍ على أكثر من صعيد، لعل أهمها يكمن في أمرين:
الأول، الفاصل الزمني شبه الصفري بالمعنى العملياتي (أخذاً في الاعتبار الوقت الافتراضي المطلوب لدراسة الحدث ومسار صناعة القرار القيادي) بين الاعتداء وردّ الفعل، ما يشي بأن الجهة المنفّذة كانت تتوفر على خيارات عملياتية جاهزة وتنتظر حصراً أوامر الجهات القيادية العليا لتباشر الإجراء. هذا الاستنتاج، لو صحّ، فإنه يعني أننا سنكون مستقبلاً أمام نمط جديد من ردود فعل المقاومة لجهة الالتصاق الزمني المباشر بأفعال العدو، بما يفرضه ذلك من أثر ردعي وإجرائي في حسابات العدو.
الثاني، يرتبط بالكفاءة التنفيذية التي انطوت عليها «عملية» تمزيق السياج وعبوره «المجازي». نظافة العملية «أحرجت الأنظمة الدفاعية لقيادة المنطقة الشمالية» في جيش الاحتلال، على حدّ تعبير أحد محلّليه الأمنيين، ما قد يستدعي «إعادة النظر في المفهوم الدفاعي على الحدود بعمق». ليست الحكاية أن مجموعات نجحت في تنفيذ المهمة الموكلة إليها والعودة بسلام من دون أن تكتشفها ما يُفترض أنها المنظومة الحدودية الأذكى في العالم، بل إن بعض الأماكن التي اختيرت لتكون موقع الحدث، على ما يقول عارفون، كانت تقع في وسط حقول الرؤية المباشرة لعدد من المراصد المنصوبة في الجهة الأخرى من الحدود. إمعان في التحدي و/ أو الاستخفاف؟ ربما.
في سياق أبعد مدى، تسجل «عملية السياج» نقطة نظام حتمية في دعوى الإنجاز الإستراتيجي التي روّجت لها إسرائيل قبل عام ونصف عام، مع إطلاقها عملية «درع الشمال» وزعمها القضاء على شبكة الأنفاق التي أعدّها حزب الله للعبور إلى الجليل في يوم الأمر.
يمكن القول إن «عملية السياج»، عملياً، صفّرت إلى حدّ كبير ذاك الإنجاز. هي أسقطت عن الشمال درعه، وكرّست انكشافه الواقعي أمام إرادة المقاومة ومفاجآتها، وأعادت إلى الأذهان مرة أخرى أن الأصل في مواجهة العدو، في ظل امتيازاته التقنية المتفوّقة هو مزيج إبداعي من «حرب الأدمغة» و«حرب الإرادات».
الاخبار