في ظلّ عجز المنظومةِ السياسية بوجهها التكنوقراطي عن اتخاذِ تدابيرٍ أو اجراءاتٍ من شأنها أن تجمّدَ الانهيار وتردع العابثين بالأمن في مختلفِ انواعهِ، مع فشلها في اقرار أيّ خطةٍ إنقاذية للحفاظِ على ما تبقى، بينما تتلهّى بتقاذفِ الاتهامات وتسجيل “الفاولات”، لبّى حاكم مصرف لبنان رياض سلامة رغبة رئيس الحكومة بوضع الحقائق في متناول الجميع، مستفيدًا من “كورونا” الذي انقذته من تهشيمِ الاعلاميين.
اعلان
الحاكم الذي خرج بأرقامهِ الحسابيّة بلغةٍ تقنية علمية، واضعًا اللبنانيين امام حقائقهِ بعيدا من “التيئيس” والاحباط، ودحضَ الاتهامات المُساقة ضد “محوره”، مفنّدًا دور مصرف لبنان، وآلية عملهِ وكيفية تدخلهِ في السوق، وفقًا لما سمحت له القوانين والانظمة من كشفٍ للمستور، فيما بقيَ قسمٌ لا يستهان به طيّ الكتمان والسرية تبعًا لأحكام الكتاب، نجح في ردّ الكيل كيلَيْن، راميًا الكرة في ملعب القوى السياسية من دون استثناء والتي تشكل مجلس المصرف المركزي من خلال “مندوبيها” فيه، في بلدٍ اصبحت حقيقته الوحيدة إفلاسه المبرم.
مؤتمرٌ صحافيٌّ بدت منهجيّته واضحة المعالم، سردًا وخلاصة، مفادهما براءة كاملة للحاكم، للطبقة السياسية، والمصارف، لا تحتاج الكثير لتنفيذ بنودها التي تتلخَّص بالنقاطِ التالية:
1- على صعيد تثبيت الليرة اللبنانية، ردّ الاتهامات المُساقة ضدّ هندستهِ المالية في هذا المجال بالتأكيد أنّ رئيس الجمهورية نفسه موافقٌ ومؤيدٌ لهذا الخيار وما البيانات الوزارية وتلك الصادرة عن اجتماعات بعبدا، إلّا خير وثائقٍ يمكن الركون اليها.
2- فيما خصّ حركة الاموال منذ “ثورة ١٧ تشرين”، فقد رمى الكرة في حضن مستشاري رئيس الحكومة الذين لم يعذبوا انفسهم التواصل معه للحصول على الارقام الدقيقة ما اوقع رئاسة الحكومة في المحظور.
3- اسقاطه لنظرية المؤامرة على صعيد تحويل الاموال الى الخارج وتوزيعه صكوك براءة بالجملة بشكلٍ مباشر وغير مباشرٍ، للطبقة السياسية، وللمصارف التي شاركت في تمويل الدولة كما في تمويل تجارة لبنان.
4- غسل يدي مصرف لبنان من موضوع الفساد. صحيحٌ أنّ المركزي يقف الى جانب المصارف والمؤسسات الدولية ويموّل الدولة إلّا أنّه ليس مسؤولًا عن عملياتِ الصرفِ وكيفيّة تنفيذها، وبالتالي فليخيّط اصحاب الاتهام بمسلةِ فسادِ الدولة الرسمي وهيئاتها واجهزتها الرقابية.
5- في موضوع قضم الودائع (هيركات) لا لزوم لتطبيقهِ، في وقتٍ لا تزال ودائع اللبنانيين موجودة لدى المصارف ومُصانة. علمًا أنّ الخبراء الماليين يؤكدون أنّ تعاميم مصرف لبنان فرضت “هيركات” شبه مقنّعٍ نتيجة الفروقات في سعر صرفِ الدولار، في موازاة “الكابيتال كونترول” المعتمد.
6- تأكيده الاستمرار في سياسة التعاميم التي هي حقٌّ له لا يفرض عليه تقاسمه مع أيّ جهةٍ، وإن كان منفتحًا على كلّ تعاونٍ مع الجهات المعنية، هو الذي “لا يعلم إن كان هناك ارادة لإجراء اصلاحاتٍ”.
هذا في الاقتصاد، أما في السياسة، فواضح أنّ الحاكم لعبَ على التناقضاتِ السياسية القائمة بين اطراف السلطة، فهو ردّ الجميل لرئيس مجلس النواب نبيه بري لوقفتهِ الى جانبهِ في مجلس الوزراء محيّدًا وزير المال السابق علي حسن خليل، مدليًا بدلوه الكامل فيما خص مديره العام، الذي حمّله مسؤولية كبيرة وخطيرة بالاستناد الى الدور الذي ينيطه به القانون. وهنا بيت القصيد. بداية لا يخفى على أحدٍ الصراع القائم بين خليل وآلان بيفاني، وبالتالي امتناع الاخير عن تنفيذ تعليمات الوزير أو الخضوع لضغوطاتِ “الوزير”. ثانيًا، بيفاني المرشح لحاكمية المصرف معروفٌ بانتمائه السياسي وغطائه على هذا الصعيد، فهل كان توقيعه على الامور المتعلقة بمصرف لبنان عن سابق اصرار وتصميم، أم كان لا يتعدى الدور الروتيني؟.
ويبقى السؤال الابرز لماذا لم يضع بيفاني رئيس الجمهورية العماد ميشال عون في تفاصيل وحقائق ما يجري في مصرف لبنان؟ في الحالتين يبدو أنّ الحاكم اصاب بشظايا طلقته تلك بعبدا وميرنا الشالوحي، اذا ما اضفنا كشفه موضوع شركتي التدقيق المالي المتعاقدتين مع المركزي، ما يشير الى أنّ تدقيق الحكومة المنتظر “سلته فاضية”. ويبقى أمام الحاكم اعلانه رغبتهِ في التعامل مع رئيس الحكومة واستعداده تلبية رغباته وإن غمزَ من قناتهِ بإعلانه تسليمهِ كافة الوثائق والتقارير والحسابات لرئاسة الحكومة منذ التاسع من الشهر الحالي.
بين المحاسبة العادلة والشاملة، كما يريدها ويطالب بها اللبنانيون، وتلك الاستنسابية و”الشعبوية” بمفهومها القديم، التي تسعى الطبقة السياسية لتمريرها، تقف الحكومة مكتوفة اليدين، هي العاجزة عن اقرار الخطوة الضرورية والاساسية بحسب اجماع كلّ من هم حولها، من خلال اقرار وانجاز التعيينات الادارية. فهل انتهت بذلك معركة الحكم والحاكم، لتنتقل الى ساحة اخرى؟ أم أنّ شدَّ الحبال سيستمرّ خصوصًا بعد تصريح مساعد وزير الخارجية الاميركية ديفيد شنكر، وغسل جميع الاطراف يديها من دم استبدال سلامة، أقلّه علنًا؟ بالتأكيد للكلام تتمة.
“ليبانون ديبايت” – ميشال نصر