حسام مطر|
في الرابع من شهر أيار الحالي نشر جيفري فيلتمان، السفير الأميركي الأسبق في لبنان، مقالة حول خطة الإصلاح المالي والاقتصادي لحكومة حسان دياب على موقع “معهد بروكينغز” (Brookings Institute). وبرغم أن فيلتمان ليس من ضمن فريق الإدارة الأميركية الحالية، إلا أن رؤيته تبقى مهمة نظراً لتقاطع مقاربته المتشددة تجاه لبنان مع فريق الشرق الأوسط في إدارة ترامب، ولكونه يملك صلات واسعة في ما يخص الشأن اللبناني. كما يتيح له عدم حيازته صفة رسمية المجاهرة بما في عقل الأميركيين من دون قفازات.
مع الأسطر الأولى يكشف فيلتمان المحاججة الرئيسية له، حيث يرى أن ما يميّز خطة حكومة دياب عن الخطط السابقة هو “حقيقة” أن هذه الحكومة تعتمد على دعم جانب واحد فقط من الطّيف السياسي اللبناني؛ أي “حزب الله” وحلفائه (هنا يقصد جبران باسيل تحديداً). تتمحور السردية الرئيسية للمساعدات الخارجية، كما يمكن استخلاصها من مقالة فيلتمان، حول التشكيك في إمكانية تلك المساعدات وجدواها، لأن الدولة اللبنانية “لم تعد موجودة ربما إلا بالاسم”، ولأن الحكومة التي يدعمها “حزب الله” وحلفاؤه من لون واحد، ولذلك فمن المحتمل أن تتبع سياسات حزبية وانتقائية ضد الخصوم (أي حلفاء واشنطن). أما الإصلاحات الحكومية فهي أيضاً غير مضمونة، والخارج ذاته موارده مشتتة جراء التعامل مع أزمة “كورونا”. وبناء عليه يجب، بحسب فيلتمان، أن تكون المساعدة الخارجية مرتبطة بشروط اقتصادية وسياسية صارمة، على أن تُحدّد هذه الشروط الآن قبل اندلاع موجة احتجاجات جديدة حتى لا تضطر القوى الخارجية إلى التهاون بشأنها تحت وطأة الانفجار الاجتماعي.
تشمل شروط فيلتمان حاجة الحكومة المتواصلة إلى إثبات أن سياساتها الإصلاحية لا تستهدف حلفاء واشنطن بشكلٍ انتقائي (فهي في موقع المتّهم دائماً) وأنها لن تطال القطاع المصرفي الذي يريد “حزب الله” السيطرة عليه وتلقينه درساً بحسب زعم فيلتمان. كما أن المساعدات هذه يفترض ألّا تعزز من “هيمنة حزب الله” وألّا تخدم سوريا وإيران، بل على الحكومة أن تلتزم بضبط الحدود مع سوريا. أما المساعدات نفسها فيجب تسليمها بعد إنجاز “توافق أوسع للقوى السياسية اللبنانية (أي مع حلفاء واشنطن) وليس من خلال الدعم الأحادي الجانب الذي يقف مع حكومة دياب”، كما يفترض بالجهود الخارجية لدعم لبنان أن تكون تحت قيادة قوية من الأميركيين و/أو الفرنسيين.
هذه الشروط تجعل من المساعدات معقّدة وشديدة المشروطيّة وبجرعات محدودة. تضمن هذه الشروط أيضاً عدم حصول تغييرات عميقة، اقتصادية وسياسية، في لبنان، فيما يستوجب الخروج من الأزمة أن تكون التغييرات عميقة بالفعل. تكشف هذه الشروط أنه، في ذهن فيلتمان، ليس المطلوب من المساعدات خلق مسار للخروج من الأزمة، بل السيطرة عليها بما يرهن اللبنانيين بشكلٍ مستدامٍ للخارج. وهكذا، فبمقدار ما تلبّي الحكومة شروط الخارج، تنال حقنةً محسوبةً بدقة. ومن خلال المساعدات يصبح بالإمكان خلق مسارٍ لإعادة التوازن في لبنان، ولتشكيل الواقع السياسي، كما تشتهي واشنطن، وتوظيفه ضد المقاومة.
لا يمكن فهم رؤية فيلتمان للواقع اللبناني من دون إدخال العامل الشخصي والنفسي لفيلتمان نفسه، والذي تعرّض دوره في لبنان لفشل ذريع
ينزلق فيلتمان بسبب رؤيته النَفَقيّة للبنان ـ حيث لا يراه إلا ساحة مواجهةٍ واشتباكٍ مع “حزب الله” ـ إلى الوقوع في تناقضات فاقعة. يعبّر فيلتمان، على سبيل المثال، عن صدمته من عدد المرات التي يكرر فيها نص خطة الحكومة ذكر الحاجة إلى مساعدةٍ خارجيةٍ مكثفة. ثم يفسر ذلك التكرار على أنه رسالة موجهة للبنانيين المشكّكين باللجوء إلى صندوق النقد الدولي، تحديداً (السيد) حسن نصر الله. أي أن الحكومة التي يصفها فيلتمان في كل مواضع النص أنها “ذات لونٍ واحدٍ ومدعومةٍ من حزب الله وحلفاءه” هي ذاتها توّجه رسالة تحدٍ إلى “حزب الله”. يقرّ فيلتمان أيضاً بصراحة أن حُزم الدعم المقترحة السابقة للبنان صممت بشكل ضمني “لتقوية مؤسسات الدولة الشرعية في مقابل الفاعلين من غير الدول، خصوصاً حزب الله”. ثم في الفقرة التالية يرى أن الحكومات السابقة تجنّبت صندوق النقد الدولي خوفاً من انكشاف المدى الحقيقي للفساد الداخلي في لبنان. أي أن المساعدات السابقة دُفعت لحكومات فاسدة بهدف مواجهة “حزب الله” وإضعافه وزيادة التوتر بينه وبين المؤسسات الرسمية والمجتمع اللبناني، فيما مسألة الإصلاح ليست إلا شمّاعة. يظهر تناقض آخر حين يتحدث فيلتمان عن الإصلاحات العميقة كشرطٍ لتقديم المساعدات الخارجية، ثم يتلطّى خلف عنوان “حزب الله” ليشكّك بجهود الحكومة الإصلاحية وما إذا كانت ستمس المصارف أو حلفاء واشنطن. فالمصارف “مهما كانت ممارساتها غير مسؤولة”، إلا إنها نظّفت نفسها من حسابات “حزب الله” لتجنب العقوبات الأميركية، ووفّرت ثقلاً موازناً لـ”حزب الله” داخل النظام اللبناني، بحسب فيلتمان.
بالمقارنة مع شهادته أمام الكونغرس في 19 تشرين الثاني 2019 للتعليق على الاحتجاجات اللبنانية حينها، تتغير لهجة فيلتمان في مقالته هذه نحو تقديم مسألة “حزب الله” على الإصلاح في ما يخص الدعم الدولي. ففي شهادة الكونغرس، اعتبر فيلتمان أنه إذا طلبت الحكومة الجديدة (لم تكن قد شُكّلت بعد) الدعم الدولي، فعلى الولايات المتحدة أن تعالج بشكلٍ فعالٍ ودوري تطلعات الإصلاح للشعب اللبناني. ثم حين وضعت حكومة التكنوقراط خطة الإصلاح، عاد فيلتمان للتأكيد على أن العائق هو “حزب الله”، فالأزمة مصدرها دور الحزب، أما الفساد فمسألة هامشية وتابعة كما يظهر في المقالة الأخيرة.
إذاً يربط فيلتمان المساعدات والدعم الدولي بتحقيق الإصلاح عبر إبعاد “حزب الله” عن السياسات الحكومية. وهكذا يعيد تأكيد مقاربته التي وردت في شهادته أمام الكونغرس بأن اللبنانيين يحتاجون “للاختيار بين الطريق المؤدي إلى الفقر الدائم أو الرخاء المحتمل”. وكلّما استفحلت الأزمة المالية والاقتصادية، يصبح فيلتمان أكثر جرأةً ووضوحاً في الحديث عن الأجندة السياسية للدعم الدولي المفترض. لا يمكن فهم رؤية فيلتمان للواقع اللبناني من دون إدخال العامل الشخصي والنفسي، حيث تعرّض دوره في لبنان لفشل ذريع؛ فتعّهد بعد تركه منصبه في سفارة بيروت بتمزيق “حزب الله” بألف ضربة بطيئة. وهو، في هذا السياق، يعبّر بقدر من الانفعال في المقالة عن تشكيكه بشأن قدرة “باسيل على البقاء من دون أن تمسّه أي عقوبات أميركية، بسبب الدور الشخصي الذي يلعبه في توسيع قبضة حزب الله على لبنان”. من هنا يجب أن يكون باسيل، بعدما ترك منصبه الوزاري، هدفاً واضحاً للعقوبات.
تتبدّى رؤية فيلتمان إذاً من خلال الدعوة إلى إلقاء مظلة الحماية الأميركية على القطاع المصرفي وعلى حلفاء واشنطن، بحيث يكون ممنوعاً على الحكومة اللبنانية إنتاج حلٍ داخلي للأزمة، فلا يبقى أمامها إلا الحل الخارجي الآتي من الغرب، لا الشرق، كما صرّح سابقاً في شهادته أمام الكونغرس. وفي ظل التدهور النقدي والاقتصادي الحاد للدولة اللبنانية، سيفقد لبنان أسبوعاً بعد آخر أي قدرة جدية على التفاوض، بل سيصبح في علاقة إذعان تامة. هكذا تطمح واشنطن عبر أداة “الدعم الخارجي”، بعد فشل حلفائها المحليين، إلى الإمساك بالتوازنات اللبنانية ودفع “حزب الله” قدر الإمكان إلى خارج مؤسسات الدولة من ناحية، وتكبيله بالانقسامات الاجتماعية من ناحية أخرى، وصولاً إلى تكريس الثنائية المحببة لها: “حكومة لبنانية شرعية في مواجهة ميليشيا حزب الله”.