لم تستطع الحكومة الخروج من الأَسر الذي وضعت نفسها فيه، وفي دليل لم يجف حبره بعد، أُعيد طرح معمل سلعاتا في جلسة مجلس الوزراء لإعادة النظر فيه، بعد أن كان رُحِّل بأغلبية الأصوات في جلسةٍ سابقةٍ إلى المرحلة الثانية من خطة بناء معامل الكهرباء، فانقلبت أمس على قرارها بترحيل سلعاتا، وعادت الى دائرة الخطة الأولى وقيّدت نفسها بالمعمل، مع ما قد يتركه ذلك من تأثير على مسار المفاوضات مع صندوق النقد الدولي الذي يرصد كل اجراء وكل خطوة رسمية.
وفي خضم ذلك، لا تزال هموم المواطن المعيشية اليومية، من الإرتفاع الجنوني في الأسعار الى فقدان المنتجات الأساسية عن رفوف المحال التجارية، جراء ارتفاع سعر صرف الدولار إلى مستويات قياسية، فيما السؤال حول ما اذا كانت الاجراءات التي أقرتها وزارة الاقتصاد تحت عنوان السلة الغذائية سيعطي نتيجة ما.
وفي سياق هذه الإجراءات، تبقى خطوة المصرف المركزي بإنشاء منصّة إلكترونية لضبط سعر الصرف وتحديده قيد الانتظار، ليترافق الإطلاق مع ضخ سيولة بالعملة الأجنبية في السوق عبر الصرافين والمصارف، لكن تفاديا للوقوع في الأزمة نفسها، يجب أن ترافق الخطوة حملة أمنية مشددة ومنظّمة للتأكد من تقيّد سوق الصرافة الشرعي بأرقام “المركزي”، ووقف عمل الأسوق غير الشرعية التي لعبت دوراً اساساً في الوصول إلى الأزمة التي غرق بها لبنان، جرّاء ممارساتهم المنافية للقانون، إن كان لجهة تهريب العملة الصعبة إلى الخارج، أو إخفائها من السوق للتلاعب بسعرها.
إن للخطوة أعلاه، بحال طُبقت بحزم، القدرة على السيطرة على سعر صرف السوق، وتهدف إلى خفض سعر صرفه. أما الأموال التي ستُضخ فمصدرها التحويلات التي أُجريت من الخارج في الفترة الأخيرة، والتي إستفاد منها المصرف المركزي ودفعها للعملاء اللبنانيين بالليرة وفق سعر صرف 3200 ليرة.
توازيا، يتحضر سوق الصيرفة إلى فك الإضراب والعودة إلى العمل، بعد أن تحققت شروط النقابة وتم الإفراج عن الصرافين الموقوفين، وهو ينتظر إجتماع وفد النقابة غدا مع رئيس الحكومة، وما ستؤول إليه ليُبنى على الشيئ مقتضاه، وفق ما علمت “الأنباء”.
وفي إتصال له مع جريدة “الأنباء”، يوضح الخبير الإقتصادي جاسم عجّاقة أن للمنصة المرتقبة إيجابيات كثيرة على صعيد سوق القطع، وكخطوة أولى تُعلم المواطن إلكترونيا بسعر الصرف المحدد من المصرف المركزي، وبالتالي منع تلاعب الصرافين، إلّا أن ذلك يتطلب خطة أمنية تسير توازياً مع العملية، لمكافحة الصرافين غير القانونيين.
ويلفت عجّاقة إلى أن “ضخ الدولار في السوق وتحديد سعر صرفه سيؤدي حكما إلى تراجع الأسعار، خصوصا أن الدولار الذي سيسرّب إلى الأسواق هدفه تنشيط العجلة الإقتصادية، ما سيشجّع الصرف، وخفض كلفة الإستيراد”.
وردا على سؤال حول خطورة إشراك قطاع الصيرفة في العملية وعدم حصرها بالمصارف، يجيب عجاقة “إن سوق الصيارفة شرعي، ويتمتع بقانون خاص به، والتعامل معه آمن إن وُجد التنسيق، وطُبِق القانون بحذافيره”، إلا أنه لا يُخفي تخوّفه من حصول تراخٍ، “ما سيعيدنا إلى نقطة الصفر، أي إحتكار الدولار وتخزينيه لإعادة ضخه في الأسوق السوداء”. الى جانب الخطة الأمنية، يشدّد عجاقة على “ضرورة وجود هيئة رقابية لضمان صرف الدولار في القطاعات المناسبة، ومراقبة حركته وحركة البضائع”.
إلّا أن مدير أنظمة الدفع السابق في مصرف لبنان رمزي حمادة بدا أقل تفاؤلا، فقد نفى في إتصال مع “الأنباء” قدرة المنصة على خفض سعر الصرف بشكل ملموس، حتى وصوله إلى عتبة الـ3200 ليرة حسب ما يشاع، مشيرا إلى أنه “لا يمكن لجم الدولار في هذه الطريقة، والسبب الأساسي عدم القدرة على السيطرة على السوق السوداء”، لافتا إلى أن مصرف لبنان “سبق أن حدد ضمن تعاميم سعر صرف المبيع عند الصرافين، إلّا أنه لم يسجّل أي إلتزام، لغياب أي قوّة رادعة، وعلى الرغم من توقيف عدد منهم، إلّا أنه أُعيد وأخلي سبيلهم، والدولار لم يتراجع سعره”.
وفي التفاصيل، يقول حمادة إن “هناك ممارسات وتصرفات غير صحيحة ضمن القطاع النقدي، فسوق الصيارفة هو عبارة عن عرض وطلب، وإذا قررت النقابة الإضراب بعد ضخ مصرف لبنان العملة الأجنبية في السوق، يعاود الدولار الإرتفاع. ومن جهة أخرى، إن تهريب الدولار الى سوريا جزءٌ أساسي من المشكلة، ولا قدرة للمنصة على ضبطه، وطالما هي سوريا بحاجة لدولار، التهريب سيبقى”.
ويؤكد حمادة على النقطة نفسها التي ذكرها عجّاقة، اي “ضرورة وجود رقابة وخطة أمنية”، وفي هذا السياق، يرى أن “الحكومة غير قادرة على ضبط هذه الأسواق، خصوصا أنها في حالة ضياع، في خضم عشرات الخبراء الذين يحيطون بها، وجميعهم حاقدين من طرف واحد، لا بل هي تدفع في خطوات في هذه الإتجاهات لتحميل مصرف لبنان والحاكم رياض سلامة، مسؤولية التقصير”.
الجدير بالذكر أن الخطة تنصّ على إمكانية سحب ما سقفه 200 دولار للشخص الواحد، ما معناه أنه لا استفادة للقطاعات الإنتاجية في الموضوع، وهذا ما يؤكده وزير الإقتصاد راؤول نعمة في إتصال مع “الأنباء”، مشيرا إلى أن “الخطط المتبعة من قِبل الوزارة مع المصرف المركزي تختلف عن الخطة الحاضرة”.
وفي هذا المجال، يقول رئيس جمعية الصناعيين فادي الجميّل إن “الخطة لا تلحظ القطاع، إلّا أن تعميما صدر عن “المركزي”، حمل الرقم 556، يهدف إلى تأمين 90% من المواد الأولية للصناعات الغذائية والتصديرية بالدولار، وتعادل القيمة 100 مليون دولار، وهي خطوة إيجابية أولى لفتح أبوابٍ لاحقة للقطاع، كمنصة الـ”Cedar fund”، وهي عبارة عن مبادرة تتضمن مبلغ يتراوح ما بين الـ600 والـ700 مليون دولار، الذي سيسمح بإستيراد المواد الأولية بشكل مستدام”.
من جهة أخرى، يوضح الجميّل أن “للقطاع نصيب بـ400 مليار ليرة من مشروع الـ1200 ليرة الحكومي، حسب تصريح وزير الصناعة”. ويختم الجميّل مذكرا بدور الصناعة الفعال ضمن الحركة الإقتصادية، وفي سياق إدخال العملات الصعبة إلى البلد، وما من شأنها توظيف يد عاملة.