ثلاثة أمور ميّزت الحكومة الحالية يوم تأليفها: الأول، وحدة واضحة للقوى التي شكّلتها باعتبارها الخيار الأنسب في تلك اللحظة، الثاني، تميّز رئيسها بقدرة على تحدي الضغوط التي واجهت كلّ من يخالف توجه القيادة التقليدية للسُّنية السياسية في البلاد. والثالث، عجز القوى الإقليمية والدولية عن إنتاج بديل.
عملياً، تحقّقت هذه الأمور بفعل واقع ما بعد 17 تشرين. لكن ما حصل مذّاك، أن القوى السياسية التي خضعت – بشكل أو بآخر – لمزاج الشارع، نجحت اليوم في تجاوزه. وها نحن نعيش ظواهر تذكّرنا بالحكومات السابقة، وبالصراع الكبير بين تحالف سلطة ما بعد اتفاق الطائف والقوى الناشطة بعد عام 2005. مع الإشارة إلى أن التحالف الأول ظلّ متماسكاً حتى اليوم، وهو يجمع الرئيسين نبيه بري وسعد الحريري والقطبين وليد جنبلاط وسليمان فرنجية وقوى وشخصيات مثّلت على الدوام الذراع الأمنية والعسكرية والاقتصادية والمالية. أما التحالف الثاني فلم يتمكّن من احتلال موقع متماسك بسبب خلافاته الكثيرة. فالتيار الوطني الحر لم ينجح في الإمساك بناصية الصوت المسيحي بقوة، ولا يزال على تناقض جدي مع القوات اللبنانية والكتائب والكنيسة وجماعات 14 آذار. وهو إن نجح في النفاذ إلى الذراع الأمنية والعسكرية والقضائية والاقتصادية، إلا أنه لم يفعل ذلك بطريقة مغايرة للسائد، بل عبر اعتماد منطق المحاصصة نفسه. واستفاد الفريق من موقف حزب الله غير الراغب بصدام أهلي واسع. والحزب، هنا، لم يتحالف فقط مع التيار الوطني الحر، بل قرّر عدم خوض معركة جدية مع القوات اللبنانية، ولا تعامل يوماً مع بقايا 14 آذار على أنهم خصم جدي، وواصل «الاحتيال» على الوقائع اللبنانية لمنع الانجرار العام نحو الشروط الأميركية والسعودية، باذلاً الكثير من رصيده الشعبي والأخلاقي في سبيل ذلك.
أخيراً، عاد الصراع إلى الاحتدام. لكن ما يميّزنا، اليوم، أن الرئيس حسان دياب وفريقاً وزارياً معه قرّرا الاستسلام لقواعد اللعبة السابقة. الوقوف على مسافة من الفريقين لم يتحوّل إلى قرار باعتماد آليات عمل مختلفة، لذلك نرى، اليوم، أن دياب وقسماً كبيراً من الحكومة يقاربان المسائل من الزاوية نفسها. وبمجرد أن يسعى رئيس الحكومة إلى بناء تحالفات سياسية على الطريقة التقليدية، فإنه يعيد فتح الأبواب أمام القوى الكبيرة لاستعادة نفوذها. وهو ما نراه في آلية تحديد جدول أعمال الحكومة وفي طبيعة التعامل مع الملفات الحساسة من السياسة الخارجية إلى ملفات القطاعات الحيوية من اقتصادية ومالية وخلافها، وصولاً إلى البند الأكثر حساسية والمتصل بالتعيينات الإدارية. والمؤسف أن من يتعمّق في تفاصيل الاتصالات حول ملفات التعيينات، يمكنه بسهولة معرفة أن دياب ووزراء كثراً في الحكومة وقعوا في فخّ العجز عن التغيير. وحجتهم، مع الأسف، هي الحجة السابقة نفسها بأن البلاد مركّبة بطريقة معقّدة ولا يمكن مواجهة القوى الكبيرة بالصدام.
المشكلة، هنا، لا تتعلق بدفاع أركان الطبقة السياسية عن مواقعهم ونفوذهم وامتيازاتهم على أنواعها، وهذا أمر متوقّع. فهؤلاء لا يريدون إحداث أيّ تغيير في المقاربات لأنهم يدركون جيداً أن التغيير الجدي يتطلب ابتعادهم عن السلطة. المشكلة هي في اقتراب رئيس الحكومة من لحظة تقمّص الشخصية نفسها، وإعطاء الأولوية لحماية نفوذهم الجديد. وعندما يقترب دياب وهذا الفريق الوزاري من نقطة الدفاع عن المناصب التي يشغلونها، فهذا يعني أنهم وقعوا في الفخّ. ولن يتأخر الوقت قبل أن يخسروا كل تعاطف ممكن معهم من الشارع أو المحبطين. لا يعني ذلك أن الناس سيذهبون سريعاً نحو انفجار جديد وكبير. لكن الشارع لن يستسلم بالسهولة التي يتخيّلها البعض. وربما يلجأ من تلقاء نفسه ـــ أو بإدارة وتحريض من قوى خارجية ـــ إلى أفعال تقود البلاد نحو فوضى غير مسبوقة وغير محسوبة. وعندها لن تنفع كل الحسابات العلمية والمعطيات والتقديرات، وسيتحول التدهور السريع في الأوضاع الاقتصادية والمعيشية إلى مدخل مشروع لكل غضب يصدر عن الشارع، سواء كان عفوياً، أو مستغلاً من قبل قوى لا تريد الخير للبنان.
اليوم، تواجه الحكومة تحديات كبيرة على صعيد إدارة الأزمة. وإذا استمرت العقلية ذاتها في المقاربة، سنقف قريباً أمام المواجهة البشعة. يكفي مراقبة إدارة ملف الكهرباء، للدلالة على سخف من يديرونه. يعرف أهل السلطة، في مختلف مناصبهم، أن أحداً في العالم لا يقبل الشروع في خطة بناء معامل الكهرباء، وأن أحداً لا يريد تقديم هبات، وأن الشركات التجارية تفتقد إلى الضمانات البديهية لإدارة استثمار بهذا الحجم. مع ذلك، يتعمّق الخلاف حول الجانب التخطيطي. الأمر نفسه يحصل في ملف البنى التحتية والاتصالات والمياه. أما الأزمة الأكبر ففي إدارة التفاوض حول الواقع المالي والنقدي في البلاد. ويكفي الاستماع إلى ممثلي صندوق النقد الدولي يهزأون بالمُفاوِض الجالس قبالتهم. لا يعرفون من يمثل هذا وذاك. وعليهم التدقيق في كل عبارة، والمطابقة والمقارنة. يقولون: نحن نفاوض الشعوب اللبنانية وليس الحكومة اللبنانية. أما السعي إلى تثبيت أرقام موحّدة ودقيقة، فهو مثل السعي إلى إحصاء دقيق وموحّد لسكان لبنان، أو كتابة فصل واقعي من تاريخه.
ليس مبالغة الحديث عن فرصة ضيّقة وأخيرة أمام حكومة الرئيس دياب. فإما قلب الطاولة والعودة إلى فكرة القواعد الجديدة، أو الغرق. وإذا ما أضفنا تحدي التعامل مع التهديدات الأميركية بعقوبات كبيرة إذا لم يلتزم لبنان الرسمي والخاص قانون «قيصر» الهادف إلى تجويع الشعب السوري، سنكون أمام الاختبار الأخير. يعرف رئيس الحكومة أنه لم يعد هناك تضامن حكومي جدي، وأن الخلافات داخل مجلس الوزراء تكبر يوماً بعد يوم، وأن توافقه مع الرئيسين ميشال عون ونبيه بري صار على القطعة، وأن الضغوط الداخلية والخارجية ستزيد يوماً بعد يوم. وعندما تحين لحظة المواجهة، لن تنفع الحكومة أو رئيسها كلّ أنواع الضمانات التي يعتقدون أنها متوفّرة لهم، سواء من قوى محلية أو إقليمية أو دولية.
al-akhbar