ماذا يفعل الرئيس نبيه بري الذي فتح أبواب عين التينة أمام مبادرات وحوارات في أكثر من اتجاه، وما سر حالة الطوارئ السياسية او التعبئة العامة التي تسود منذ ايام في مقر الرئاسة الثانية؟
من الواضح أنّ بري يستشعر بخطر داهم وكبير جرّاء النشاط المستجد لفالق التوترات الطائفية والمذهبية التي تنقلت اخيراً من منطقة الى اخرى، مهددة بنشوب فتنة بين ضحايا الازمة الاقتصادية.
ولمّا كانت حكومة التكنوقراط تفتقر الى الوزن التمثيلي الثقيل ولو انّ «بطانتها» سياسية، فقد كان لا بد من محاولة ملء الفراغ بالكلمات المناسبة حتى لا تملأه أشباح الفتنة، وهو الأمر الذي دفع بري، على ما يبدو، إلى إطلاق حركة سياسية مكثفة في اتجاهات عدة، لاحتواء موجات التشنج وتخفيض منسوب المخاطر قدر الإمكان.
وانطلاقاً من هذه القاعدة، جمع بري كلّاً من رئيس «الحزب التقدمي الاشتراكي» وليد جنبلاط ورئيس «الحزب الديموقراطي» طلال أرسلان حول مائدة مصالحة درزية في عين التينة، ثم التقى بعد انقطاع الرئيس سعد الحريري لتبريد صفيح الاحتقان المذهبي الذي ارتفعت حرارته على الأرض، بينما يُتوقع ان يستقبل خلال الأيام القليلة المقبلة رئيس الحكومة حسان دياب.
وإلى جانب هذه الخطوط، قرر بري ان يضع ثقله لإنجاح اللقاء الموسّع المقرر انعقاده في قصر بعبدا في 25 حزيران الحالي، وسط توزيع للأدوار بينه وبين الرئيس ميشال عون لتمهيد الأرضية أمام التئامه بأفضل الشروط الممكنة، حيث سعى رئيس المجلس الى إزالة العوائق السياسية التي تعترضه، وحَثّ الحريري وجنبلاط وسليمان فرنجية على المشاركة فيه وتجاوز أي مآخذ على العهد في هذه اللحظة المصيرية التي تتطلب إعادة ترتيب للأولويات والخصومات، وفق ما تقتضيه متطلبات النجاة.
وضمن هذا السياق، يُنقل عن بري تأكيده انه، وباستثناء ملف الكهرباء، فإنّ هوة الخلاف تضيق شيئاً فشيئاً مع «التيار الوطني الحر»، مشدداً على أنّ هذه المرحلة لا تتحمل المناكفات بل هي تستدعي تعزيز القواسم المشتركة والبناء عليها.
كذلك، دفع بري نحو توحيد أرقام الخسائر المالية، برعاية مجلس النواب، من خلال الدور الذي أدّته لجنة المال ولجنة تقصي الحقائق النيابيتين للتوفيق بين مقاربات الحكومة والبنك المركزي والمصارف، وتوحيد موقف الوفد اللبناني الذي يفاوض صندوق النقد الدولي.
َوبعد انقشاع غبار التخريب، يعتبر بري انّ الحقائق أثبتت للقاصي والداني انّ المشاركين من البيئة الشيعية في أحداث الشغب التي استهدفت وسط بيروت هم أقل من الاقلية، داعياً الى تحمّل المسؤولية الوطنية في التعامل مع هذا الملف وعدم استسهال الانزلاق الى اتهامات غير مثبتة من شأنها زيادة الشرخ بين اللبنانيين.
ويلفت بري الى انّ مخطط الفتنة كاد يمر من خاصرة الشياح – عين الرمانة التي حاولت أن تخترقها أصابع مشبوهة للعبث بالسلم الاهلي، لكننا نجحنا بالحكمة في تفادي المحظور، متوقفاً عند الدور المسؤول الذي أدّاه التيار الحر في عين الرمانة.
وما يزعج رئيس المجلس ايضاً «الفتنة المالية» التي يحركها الدولار بفِعل استمرار تحليقه على علو مرتفع، علماً انّ رئيس المجلس كان قد توقّع بعد الاجتماع الرئاسي في بعبدا بأن يبدأ سعره في الانخفاض المتدرّج بدءاً من مطلع هذا الأسبوع، لكن يبدو أنّ السوق السوداء لا تزال تفرض إيقاعها على السعر، من دون أن تنفع حتى الآن التدابير الرسمية المتخذة في لجمها.
وتعليقاً على التفلّت المتواصل للدولار من الضوابط، يُنقل عن رئيس المجلس قوله: إنها رذالة ما بعدها رذالة.
وينّبه مطّلعون على كواليس المأزق النقدي الى انّ ملايين الدولارات التي يَضخّها المصرف المركزي في السوق لن تفيد لوحدها في السيطرة على جموح العملة الخضراء ورفع قيمة الليرة اللبنانية، لافتين الى انّ الدولار لا ينخفض بقرار سياسي او بالبنج المالي حتى لو ضَخ البنك المركزي مليار دولار دفعة واحدة، لأنّ أي مبلغ مهما كان حجمه سيتبخّر في السوق المتعطّشة، ما لم تتمكن من استعادة توازنها. ويشير هؤلاء الى انّ الثقة وعامل العرض والطلب هما حجر الأساس في اي معالجة حقيقية لأزمة الدولار، وعندما تتوافر الثقة فإنّ المنازل، قبل صندوق النقد والدول المانحة، هي التي ستبدأ في ضَخ مبالغ كبيرة من الدولارات الموضبة في الخزائن والادراج.
بري والمخيمات
وأبعد من حدود التحديات اللبنانية، عُلم انّ بري لم يكتف باستخدام خراطيم عين التينة لإطفاء الحرائق الداخلية، بل هو دخل أيضاً على خط التقريب بين المنظمات الفلسطينية وتحصين المخيمات في مواجهة أي محاولة لجرّها الى مواجهة مسلحة، سواء بين فصائلها او مع جوارها اللبناني.
وفي المعلومات، انّ بري المسكون بهاجس الفتنة، تَخوّف من ان يتم استغلال مناخ التحريض المذهبي الذي ساد خلال الأيام الماضية، ولا سيما بعد احداث 6 حزيران، لاستدراج المخيمات الى صدامات جانبية، بالترافق مع الاستعداد الاسرائيلي لضَم الضفة الغربية، فبادرَ الى تحرك وقائي – استباقي لمنع اي سيناريو من هذا القبيل، وكلّف مسؤول العلاقات بالقوى الفلسطينية في حركة «أمل» محمد جباوي، يعاونه عضو المكتب السياسي بسام الكجك، بالتواصل معها لتحييد المخيمات عما يجري خارجها ولتفعيل التنسيق بين الفصائل بعد تجدّد خلافاتها وارتفاع منسوب الفتور بينها.
وارتكز مسعى بري بالدرجة الأولى على إعادة إحياء عمل هيئة العمل الفلسطيني المشترك التي تضم منظمة التحرير (بقيادة فتح) وتحالف القوى الفلسطينية (حركتا حماس والجهاد ومنظمة الصاعقة والجبهة الشعبية – القيادة العامة وفصائل داعمة لخيار المقاومة المسلحة) والقوى الإسلامية (عصبة الأنصار وأنصار الله والحركة الإسلامية المجاهدة)، علماً انّ هذه الهيئة ولدت عام 2018 في عين التينة بقوة دفع من بري آنذاك، لكنها أصيبت بالشلل في الأشهر الماضية على وقع التجاذبات الفلسطينية المتكررة من جهة وتداعيات كورونا من جهة ثانية.
وفي إطار الوساطة الحركية التقى جباوي منذ فترة السفير الفلسطيني في بيروت اشرف دبور وقيادة حركة فتح في السفارة الفلسطينية، ثم اجتمع مع قيادة «التحالف» في مكتب حماس، لينتقل بعد ذلك الى مخيم عين الحلوة حيث زار قيادات القوى الإسلامية.
وتركزت النقاشات خلال تلك الاجتماعات على ضرورة منع انزلاق المخيمات الى اي صدام فلسطيني داخلي او صدام لبناني – فلسطيني، وعدم التدخل في الشؤون اللبنانية الخلافية وتعزيز التعاون مع الدولة، خصوصاً الجيش والاجهزة الأمنية، ومحاربة ظاهرة المخدرات في المخيمات.
وقد جرى تتويج هذه الجولة من المشاورات بعقد اجتماع لهيئة العمل المشترك في مقر السفارة الفلسطينية، في حضور عضو المكتب السياسي لـ»أمل» محمد جباوي الثلاثاء الماضي، حيث تم تأكيد الثوابت الكفيلة بحماية الاستقرار وتقرر عقد اجتماع مماثل للهيئة كل شهر، خصوصاً انّ المنظمات الفلسطينية تدرك انّ اي اقتتال قد يؤدي إلى تهجير المخيمات وتسهيل تنفيذ المشاريع الهادفة الى تصفية القضية والحقوق، كما يؤكد مصدر مطّلع على تفاصيل المداولات.
وقد اتفق اعضاء الهيئة على تعزيز الأمن والاستقرار وبَذل كل الجهود لتحصين وحماية سكان المخيمات ومحاربة كل الآفات الاجتماعية وتأمين سبل العيش الكريم، كذلك أكدوا تعزيز التعاون مع لبنان على كافة المستويات لإحباط محاولات إثارة الفتنة والإنزلاق نحو الفوضى والمجهول، ودعوا الى رفع مستوى التعاون بين الأونروا والدولة والفصائل الفلسطينية ولجنة الحوار اللبناني الفلسطيني لمواجهة التحديات الاقتصادية والمالية والاجتماعية في ظل جائحة كورونا، وطالبوا الدول المانحة بتحمّل مسؤولياتها في دعم الأونروا حتى تتمكن من القيام بواجباتها نحو اللاجئين الفلسطينين.
وهذه ليست المرة الاولى التي يتطوّع فيها بري لنزع فتيل الانفجار من قلب المخيمات، إذ سبق له ان تدخّل عام 2013 للحؤول دون تورّط مخيم عين الحلوة في المعركة التي كان يخوضها الجيش ضد جماعة احمد الأسير، وحصل يومها تواصل بين بري وخالد مشعل وقيادات فلسطينية رفيعة لاستدراك المواجهة قبل أن تقع، لا سيما أنّ مدفعية الجيش كانت مصوّبة على أهداف محددة داخل المخيم في انتظار الأمر بإطلاق النار.
وتحرّك بري من جديد على خط التهدئة عام 2015 بعد التفجيرات التي حصلت في منطقة عين السكة في برج البراجنة واتُهم فلسطينيون في مخيم البرج بالوقوف خلفها، ثم عاوَد الكرّة عام 2017 حين جرت محاولة لاستدراج عين الحلوة الى مشروع فتنة عقب الازمة الشهيرة التي واجهت الرئيس سعد الحريري في السعودية.
al-jumhuriya