لطالما تغنّى اللبنانيون بقرب بحرهم إلى جبلهم، ربما، لأن أحداً لم يجد على مرّ السنوات ميّزة أخرى للتغنّي بها. فلا الصناعات اللبنانية بخير ولا الزراعات كذلك، في بلد يكاد يستورد كل شيء: ما يلبسه ويأكله ويشربه. ليس من السهل هنا الحديث عن 24 مليار دولار تصرف سنوياً على الاستيراد من الخارج (منها 4 مليارات دولار خدمات)، من مشتقات نفطية إلى أدوية وآلات طبية ومعدات كهربائية وإلكترونية، وصولاً إلى اللحوم والألبان والأجبان والفواكه والأزهار والشتول والملابس والأحذية… أي أن مجموع السلع والخدمات المستوردة إلى لبنان يشكّل نحو 46% من مجمل الناتج المحلي. كان يفترض أن يستدعي الأمر، أقلّه، مراجعة كما حصل في بعض الدول التي أعادت النهوض باقتصادها عبر العمل على إبقاء الدورة المالية داخل البلد، أي تقليص حجم الاستيراد. لكن تابع لبنان سيره عكس التيار؛ فأغلق المصنع تلو الآخر، هجّرت الأراضي الزراعية، أقفل الحرفيّون وأصحاب الأعمال الصغيرة أبوابهم. أفرغ الاقتصاد المدولر والريعي دورة الإنتاج وحلّ مكانها الاستهلاك السهل والرخيص، مقارنة بكلفة المنتج المحلي؛ ذلك لأن سعر صرف الدولار ظل ثابتاً أمام الليرة اللبنانية، أو أقلّه هذا ما قيل.
ثمّة سببان جوهريان لما سبق. يقول الخبير الاقتصادي شربل قرداحي لـ»الأخبار» إن السبب الأول مردّه الى السياسة النقدية واعتماد سعر الصرف «الاسمي» لقياس تقلّبات العملة الوطنية مقابل العملات الأجنبية. وقد جرى تثبيت سعر الصرف أمام ليرة لبنانية «منفوخة» القيمة، ما جعل كلفة التصنيع مرتفعة جداً وباتت المنتجات الوطنية غالية نسبة الى المنتجات الأجنبية: «تراجع مبيع البضائع اللبنانية في الداخل وفي الخارج، ليتوسّع العجز في الميزان التجاري للسلع والخدمات، وتتراجع الأنشطة الصناعية والإنتاجية الداخلية وترتفع البطالة، وتزداد الحاجة إلى دخول النقد من الخارج ورفع الفائدة، ما أدى الى تراجع الإنتاج»… وتلك حالة يشهدها لبنان منذ تسعينيات القرن الماضي. الى جانب ذلك، غزت المنتجات الغذائية الأجنبية السوق اللبناني المفتوح، في غياب أي ضوابط لعملية الاستيراد وتشجيع وحماية الإنتاج المحلي. فصار معظم اللبنانيين يفضلون «الكورنيشون» الفرنسي على «الكبيس» المحلي، التفاح الأوسترالي على التفاح البشرّاوي، الورد الهولندي والسعودي على الجوري، الدجاج البرازيلي المجمّد على المحلي الطازج. للعلم، يستورد لبنان قرابة 80% من حاجاته الغذائية. يبدو الأمر سوريالياً في بلاد الشمس والماء، وكأن تدميراً ممنهجاً لنسيج المجتمع كان يحضّر له منذ عشرات السنوات. وإلا ما الذي يفسر اتفاقية استيراد الحليب واللبن واللبنة من المراعي السعودية والسماح للحوم البرازيلية والأوسترالية بغزو المتاجر، وفتح الأسواق أمام الخضر والفواكه الأجنبية لمنافسة الإنتاج المحلي، ورفض فرض ضرائب على المفروشات المستوردة لحماية المعامل اللبنانية، وفتح السوبر ماركات أمام النبيذ الفرنسي وغيره، فيما في لبنان 50 معملاً لصناعة النبيذ؟ في المقابل، النبيذ اللبناني أغلى سعراً في لبنان مما هو عليه في الأسواق الخارجية، وبالتالي يتحمّل أصحاب المعامل جزءاً من هذه المسؤولية. بموازاة ذلك، هل ثمّة من تنبّه الى السبب الرئيسي وراء إقفال العديد من معامل الخياطة وصناعة الأحذية؟
فبعيداً عن المسبّبات الصغيرة، يفترض السؤال عمّا حال طوال هذه السنوات دون بناء المختبر الوطني وتفعيل صناعة الأدوية في بلد يطيب لأهله تسميته «مستشفى الشرق الأوسط» والتغنّي بحلوله في المراتب الأولى للطبابة، من دون أن يكون لديه صناعة أدوية، وأقلّه محاولة التصدير إلى البلدان المجاورة لمعادلة فاتورة الاستيراد أو القفز فوقها؟ تطول اللائحة هنا، ففاتورة لبنان السنوية نتيجة استيراد «الأغري فود» مليار و300 مليون دولار، و60 مليون دولار للورود، ومليار و300 مليون دولار للأدوية والمستلزمات الطبية، مليار دولار لمنتجات صناعة الأغذية والمشروبات، مليار دولار للحوم، مليار و700 مليون لمنتجات الصناعات الكيميائية، 5 مليارات على المنتجات المعدنية ومثلها الكثير.
أما السبب الثاني، فمردّه وفقاً لقرداحي إلى الاقتصاد الجزئي أي «الطبيعة الاحتكارية للأسواق اللبنانية، بحيث لا نجد إلا عدداً محدوداً من الشركات والمنتجين في كل قطاع. فالدولة اللبنانية التي فتحت الأسواق بشكل كبير وسهّلت دخول البضائع، أبقتها مغلقة إلا أمام عدد من المستوردين والمنتجين المحليين». وذلك لإغناء بعض المحظيّين مقابل إفقار غالبية الطموحين وإجبارهم عمداً على التخلّي عن أعمالهم وشركاتهم: منع المنافسة الداخلية يرفع كلفة الإنتاج، وخصوصاً مع غزو البضاعة المستودرة الرخيصة للسوق. أضف إلى ذلك طبيعة الاقتصاد التي حصرت النشاطات بالمصارف والسياحة والبناء… وهذه القطاعات أيضاً تغذّت من الاحتكار، بمعنى أن السياسة النقدية حدّدت خطاً واضحاً للفوائد والخدمات متشابهة في كل المصارف، وبالتالي منعت التنافس في ما بينها.

يضغط «لوبي» رجال الأعمال لمنع إقرار قانون المنافسة وتحرير الاقتصاد

وكان يفترض أن يرفع قانون المنافسة الذي أعدّه وزير الاقتصاد السابق منصور بطيش يد المحتكرين بشكل أو بآخر عن بعض القطاعات الرئيسية ويعيد الحماسة الى أصحاب الشركات ومصانع الإنتاج، لكنه يصطدم اليوم بمساعٍ لإسقاطه أو إفراغه من مضمونه. وتشير المعلومات الى أن «اللوبي» النافذ يضغط اليوم لمنع إقرار القانون حتى لا تسحب ورقته الرابحة من بين يديه. في اتصال مع «الأخبار»، قال بطيش إنه أنجز القانون وفق أهم المعايير الدولية خلال السنة الماضية وأرسله إلى الأمانة العامة لمجلس الوزراء. والمطلوب أن يوقّعه وزير الاقتصاد راوول نعمة ويعيده إلى المجلس، لا أن ينشره على الموقع الإلكتروني. فنعمة وضع مشروع القانون المعدّ من بطيش على موقع الوزارة الإلكتروني حتى يتمكن المواطنون من اقتراح التعديلات عليه وسط ضغط سياسي من الهيئات الاقتصادية وغيرهم لمنع بتّه. ببساطة، يريد هؤلاء الإبقاء على اقتصاد يأكل حقوق الناس، لأنه يخدم القلّة المحتكرة، فيما البلد يرزح تحت خط الفقر، مترافقاً مع ارتفاع خياليّ في سعر صرف الدولار. الأولوية اليوم، «هي لتحرير الاقتصاد بالفعل، فمن المعيب أن نكون من بين الدول التي تدّعي الاقتصاد الحر، ولكنها من بين قلّة لم تقرّ قانوناً لمنع الاحتكار في جميع القطاعات».
إعادة النهوض بالاقتصاد اللبناني، على ما يرى أحد الخبراء، أسهل مما يبدو عليه. فتسارع الأزمة النقدية وانكشاف سعر الدولار أدّيا تلقائياً الى خفض الاستيراد، بالتزامن مع بحث السكان عن المنتج الأقل سعراً، ما يعني استبعاد غالبية السلع الأجنبية بشكل تلقائي. ولكن رغم ذلك، «يفترض الوصول الى صيغة تحمي الإنتاج المحلي وتمنع ولو لفترة معيّنة استيراد بعض السلع مقابل خلق مناخ تحفيزي لأصحاب الأعمال الصغيرة والمصانع على شكل إعفاءات ضريبية أو قروض بفوائد منخفضة، وهو ما سيساهم أيضاً في خفض عجز الميزان التجاري. هذه الخطة، تترافق بالتكافل والتضامن بين وزارات الاقتصاد والصناعة والزراعة والخارجية لتأمين أسواق لتصريف الإنتاج في دول الخارج».