ادلاء السفيرة الاميركية دورثي شيا، بعد مقابلتها وزير الخارجية ناصيف حتي، ببيان مكتوب عنى ان كل ما دار بينهما اتفق عليه سلفاً، فلم يفاجئ اي منهما الآخر ولم يسمعه ما لم يُرضِه. تفاهما قبل جلوسهما معاً على كل ما يقتضي التصرّف بموجبه في ما بعد
ما قالته شيا في مقابلتها مع محطة «العربية» التي أثارت الضجة الاخيرة، ونجم عنه قرار القاضي محمد مازح السبت الفائت، كما ما سبق ما قالته قبل ايام في اكثر من محطة تلفزيونية محلية، لم يختلف عما كانت تقوله السفيرة السلف اليزابيث ريتشارد سوى بالنبرة ودينامية الحركة التي رافقت توقيت تصعيد اللهجة. بيد ان المضمون نفسه. يصح القول ان السفيرة التي لم تمضِ اشهر قليلة على مباشرة عملها في لبنان، منذ شباط، لم تقل ما هو اسوأ مما قاله سلفها جيفري فيلتمان حينما كان في لبنان (2004 – 2008)، ولا من قبله سلف السلف دافيد ساترفيلد (1998 – 2001). وهما السفيران الموصوفان بالاكثر عدائية وفجاجة في ادائهما، وتغلغلهما في اللعبة السياسية وما بين الافرقاء اللبنانيين، وإلمامهما بتناقضاتهم، ونبرتهما الحادة حيال حزب الله في مرحلتي ما قبل تحرير الجنوب عام 2000 ثم ما بعدها. لم تختلف السفيرتان اللتان تلتهما ميشال سيسون (2008 – 2010) ثم مورا كونيللي (2010 – 2012) عن ريتشارد وشيا، سوى بالنبرة التي جعلت سيسون ضعيفة تخلف سفيراً منفرّاً كفيلتمان، وكونيللي سفيرة صلبة تسبق سفيرة هادئة.
وصف ساترفيلد وهو بعد سفير في بيروت حزب الله بـ«منظمة ارهابية» عندما كان يخرج من مقابلة رئيس البرلمان نبيه برّي، دونما الاخذ في الاعتبار مغزى هذا الاستفزاز وموقعه، وراح حينذاك يندد بهجمات المقاومة ضد الاحتلال الاسرائيلي. بدوره فيلتمان لم يتردد في عزّ الانقسام بين قوى 8 و14 آذار عام 2005 في التمسك باجراء الانتخابات النيابية في التوقيت الذي حدده هو، وهو الاول من حزيران عامذاك، وبقانون الانتخاب النافذ، بعدما شاع قوله: «الانتخابات الآن»، وطعنه في شرعية الرئيس اميل لحود. صنع التحالفات والائتلافات، وكان المستشار اليومي السري لحكومة الرئيس فؤاد السنيورة في ذلك الوقت، قبل ان يورّطه حلفاؤه اولئك في ما كشفه هو عنهم في مراسلات «ويكيليكس» وبرقياتها.
ما قالته شيا ليس اسوأ مما اعتاد اللبنانيون سماعه من ساترفيلد وفيلتمان
مع ان السفيرة الحالية قلبت ما اعتبرته صفحة الخلاف مع الحكومة اللبنانية بإزاء قرار القاضي مازح، الا ان المطلعين على ترددات ردود فعلها يتحدثون عن بضعة مؤشرات ماثلة في ذهنها:
اولاها، انها لا تبرئ حزب الله من قرار القاضي، مباشرة او على نحو غير مباشر، في خطوة غير مسبوقة في تاريخه يُقدم عليها القضاء اللبناني. لا توقيت القرار في محله، ولا الدافع المفتعل مقنع، ولا الصلاحية توجب مثل هذا التدخل والاجتهاد، ولا الصمت الرسمي حياله طوال اكثر من 48 ساعة. اضف ان الحزب كان اول المسارعين من بين حلفائه الى تأييد القرار القضائي واطرائه، في وقت احجمت حكومة الرئيس حسان دياب عن الانخراط في الاشتباك، كي تضيف الى سجلها مزيداً من الشكوك التي لمحت اليها السفيرة مراراً، وهو انها «حكومة حزب الله».
رغم انها اولت الوجه الآخر المعلن لقرار مازح، وهو منع وسائل الاعلام اللبنانية والاجنبية من اجراء احاديث معها طوال سنة تحت طائلة الملاحقة، اهتمامها على انها تدافع عن الحريات واخصها حرية الرأي والتعبير، بيد ان شيا لم تقلل من خطورة الوجه المخفي من القرار الذي لم يجرؤ القاضي على التوسع فيه، وهو منعها هي بالذات من الادلاء بأحاديث، كما لو انه يقيّد تحرّكها ويسجّل بذلك سابقة. لذا اتى كلامها العلني بعد مقابلة وزير الخارجية عن ضرورة الانصراف الى معالجة الازمة الاقتصادية، مكمّلاً لما قيل في السر على اثر صدور القرار، وهو ان على القضاء الانصراف الى مكافحة الفساد والمساعدة على استعادة اللبنانيين حقوقهم المحظورة عليهم.
ثانيها، تلقت السفيرة للفور اتصالاً من مستشار رئيس الجمهورية الوزير السابق سليم جريصاتي ينفي اي علاقة للرئيس ميشال عون بما حدث، او ان تكون الرئاسة اللبنانية اوعزت به. مع انه لم يتحدث اليها سوى بصفته مستشاراً للرئيس، الا ان السفارة تعاملت مع مكالمة جريصاتي – من دون ان يكون ذا صلاحية – على انها «اعتذار» من الحكومة اكثر منه تبريراً.
ثالثها، ليس ثمة جديد طرأ على موقف واشنطن من حزب الله، التي لم تغفر ما حدث في نيسان 1983 بتدمير سفارتها في عين المريسة، ثم في تشرين الاول عامذاك بتدمير مقر وحدات المارينز، وتوجيهها الاتهام الى الحزب. منذ مطلع عقد التسعينات تصاعد التشدد الاميركي حياله بنعته «منظمة ارهابية»، في مرحلة علاقات ودية اتاحت لواشنطن اطلاق يد دمشق في الامساك بلبنان وادارة نظامه ومحاولة ضبط الحزب عند الحدود الشمالية لاسرائيل. لم يمر على لبنان مذذاك سفير اميركي لم يستخدم الصفة نفسها ضد حزب الله قبل الانتقال في السنوات الاخيرة الى مرحلة فرض عقوبات الاقتصادية عليه، الى حد راحت تشيع في المدة الاخيرة ان ثمة حلفاء لحزب الله وثيقي الصلة به في السلطة وخارجه مرشحون لادراجهم في عقوبات موسعة.
مبعث استغراب السفارة ان ما ادلت به شيا تلا، بالنبرة نفسها، ما كان قاله مساعد وزير الخارجية لشؤون الشرق الادنى دافيد شنكر، ثم من بعده وزير الخارجية مايك بومبيو. الاستدراك الوحيد الذي يجعل السفيرة تتيقن من ضلوع حزب الله في قرار القاضي، ان الاضافة المهمة على ما قاله رئيساها من واشنطن كان تحميلها حزب الله مسؤولية الانهيارين الاقتصادي والمالي في لبنان وتهريب العملات الصعبة الى سوريا وتعريض اللبنانيين للجوع والفاقة. اضافة كهذا لم تكتف بمضمون «التعليمات» التي تتلقاها من ادارتها حيال تصعيد الموقف من حزب الله، بل يشكل عنده محاولة تأليب اللبنانيين عليه.
al-akhbar