ليست مجرد «كليشيه» تلك الحسبة التي انتشرت، في اليومين السابقين، عن رواتب (بالليرة) الـ623 موظفاً الذين طُردوا من الجامعة الأميركية في بيروت، التي يتقاضونها، وراتب واحدٍ من كبار «الموظفين» («صودف» أنه رئيس الجامعة فضلو خوري) بالدولار الأميركي. الخلاصة تفيد بأن مجموع رواتب المصروفين، «مقرّشة» بالدولار، لم تصل إلى راتب رئيس الجامعة. المشهد سوريالي، وإذا كانت الحسبة غير دقيقة تماماً، إلا أنها تدلّ على أمرين أساسيين: أوّلهما الفارق الشاسع بين رواتب الفئات «العليا» والفئات «الدنيا»، وثانيهما – وهو الأهم – الفساد الذي تغرق فيه الإدارة.
منذ سنوات، تحولت الجامعة الأميركية في بيروت إلى «وكر». هذا ما يقوله المطرودون من عملهم، كما يقوله أيضاً من لا يزالون داخل «الصرح» عن الفساد، من الرواتب إلى المبالغ التي تدخل الصندوق إلى الوظائف المخترعة التي كانت الجامعة حتى ما قبل «زمن فضلو خوري ومحمد الصايغ» تسير في غنى عنها، إلى الإنشاءات العملاقة التي قامت «من دون تخطيط ولا جدوى اقتصادية وبمبالغ هائلة».
عندما قررت الجامعة الأميركية أن تواجه الأزمة المالية، طردت 623 موظفاً لا يفوق راتب الغالبية منهم مليون ليرة، وبعضهم يتقاضى بين 700 ألف و800 ألف ليرة. أحد المصروفين كتب رسالة إلى «الرئيس»، على «تويتر»، قال فيها «أنا طلعوني لأنو معاشي مليون و300 ألف ليرة… في وقت تبلغ ميزانية المؤسسة التشغيلية 423 مليون دولار وتلقّت هبات تبلغ 768 مليون دولار». ويمكن إعطاء صورة تقريبية عن الواقع، سنداً الى بعض الإحصاءات التي تنشرها الجامعة وتلك التي تنشرها سنوياً سجلات الضرائب الأميركية، ويعود آخرها للعام 2018. هكذا، يتبيّن أنه في الوقت الذي «انكسرت» فيه إدارة «الأميركية» بسبب رواتب موظفيها الصغار، بلغت قيمة الرواتب السنوية لـ21 من كبار الموظفين (رئيس ونائب رئيس وأعضاء مجلس الأمناء ومديرين) 9 ملايين و567 ألفاً و640 دولاراً. وهي تشمل أساس تلك الرواتب التي تبلغ نحو 4 ملايين و757 ألف دولار، فيما تتوزع المبالغ الأخرى بين مكافآت وحوافز و«خدمات أخرى»…
صحيح أن بعض هؤلاء قد خرج مؤخراً من فئة الكبار في الجامعة، إلا أن الرواتب ظلت من دون تعديلات، ما يعني أن التبديل طال الأسماء. أضف إلى ذلك، «رزمة» أخرى من المراكز التي لا يمكن وصفها سوى بأنها «حشو»، على ما تقول مصادر في إدارة الجامعة. وهي مراكز فائضة واستحدثت «فقط لإرضاء الأطراف السياسيين»، وهذا «كلام مسؤول؛ فعلى سبيل المثال، في الجامعة «جيش من المستشارين والمساعدين بما يفوق حاجة القسم المفترض». ويحلو لهؤلاء أن يقارنوا بين فترة «البطر» الذي تعيشه المؤسسة منذ نحو عشر سنوات والفترة التي سبقتها. «قبل عشر سنوات، كان هناك رئيس جهاز طبي واحد يتقاضى سنوياً نحو 25 مليون ليرة». بغض النظر عن تغيّر القدرة الشرائية، إلا أن «ذلك لا يبرّر حشو الأقسام، كأن يصبح هناك رئيس ومعه 4 مساعدين يتقاضون سنوياً ما يقارب 400 ألف دولار». كما أن لا شيء يبرّر «غزو» الأقارب والمعارف، مشيراً الى «أن صاحب منصب مهم في الجامعة وزوجته أيضاً تقاضيا على مدى 15 عاماً نحو مليون ونصف مليون دولار سنوياً».
في الأرقام، ثمة أصفار كثيرة كان يمكن تشحيلها من ضمن إعادة هيكلة الإدارة مقابل إعفاء ذوي الدخل المحدود من السيناريو الذي حدث. فبالأرقام، بلغ حجم مدخول الجامعة الأميركية في بيروت عام 2018 «ملياراً و721 مليون دولار»، بحسب سجلات الضرائب الأميركية. ولئن كان هذا الرقم يشمل الواردات والنفقات، إلا أن في التفاصيل، ثمة هامش ربحٍ ينتح عن الفارق بين تلك الواردات والصادرات يفوق مئة مليون دولار سنوياً. وبحسابات بسيطة، وبالعودة إلى آخر إحصاء متوفر (العام 2017)، بلغ مجموع العائدات 684 مليوناً و65 ألفاً و360 دولاراً (بين هبات وعائدات استثمار وعائدات خدمات…) مقابل 583 مليوناً و504 آلاف و528 دولاراً مجموع التكاليف أو النفقات، أي بفارق 100 مليون و570 ألفاً و732 دولاراً.
اليوم، ثمة أزمة مالية، لكن في المقابل هناك مساعدات لم تتوقف عن الجامعة، آخرها ما قالته السفيرة الأميركية في بيروت دوروثي شيا عن دعم المؤسسة. ولئن كان لا يمكن تطبيق هذه الأرقام على العام الحالي، إلا أنها يمكن أن تكون نموذجاً. الخسارة واقعة، لكن في الجزء المتعلق بالأرباح، «يعني يمكن بطلت تربح بس» بحسب المصادر نفسها.

ربما كل الذين صُرفوا لم يكونوا ليكلفوا المؤسسة أكثر من عقد صيانة!

في مقابل تلك الأرقام، تشير اللوائح أيضاً إلى أن الجامعة تملك استثمارات خارجية بقيمة تفوق مئة مليون دولار، منها 8 ملايين و185 ألفاً و318 دولاراً في الشرق الأوسط (تحت عنوان أنشطة مساعدة تشمل تجهيز مبان وخدمات الأكل والبرامج للطلاب والكليات والفرق العاملة في بيروت) و92 مليوناً و701 ألف و370 دولاراً استثمار في «أميركا الوسطى والكاريبي»، وهي في مجملها استثمارات «سياحية» يحق السؤال عنها في مثل هذا الوقت؟ إلى كل تلك، تضاف بنود أخرى، منها بند «الهبات للمنظمات الحكومية والحكومات والأفراد من غير اللبنانيين» والتي بلغت قيمتها (2017) 45 مليون دولار. وفوق ذلك كله، تنبغي الاشارة الى أن الجامعة معفاة من الضرائب، لأنها – ببساطة – «مؤسسة لا تبغي الربح».
ما ليس مذكوراً في تلك التقارير، هو «ما لا تريد الإدارة قوله». ويمكن الحديث هنا عن بعض الأمثلة، منها مثلاً ما يتعلق بالإنشاءات والمباني الجديدة التي توقف العمل في بعضها في ظل الأزمة المالية، والتي «كلّفت ميزانية الجامعة ما يفوق 200 مليون دولار، قامت في جلها من دون تخطيط سليم. فبدل العمل على زيادة عدد الأسرّة التي يمكن أن تجلب عائدات للمستشفى، أنشأنا عيادات وإنشاءات لا حاجة لها». أما المثال الآخر، فهو ما يتعلق بـ«نظام السوفت ووير epic الذي كلف الموازنة نحو 60 مليون دولار». وهنا، تنبغي الإشارة إلى أن «الصفقة تمت على يد ابن أحد المديرين السابقين، والذي يشغل منصباً في الشركة التي باعت البرنامج».
الى ذلك، هناك ما يفوق ذلك كله سوريالية. على سبيل المثال «تسوية» لإنهاء خدمات أحد المديرين السابقين كلفت مئات ملايين الدولارات، وهي «لا تزال تدفع وستبقى تدفع إلى حين انتهاء العقد مع المنهاة خدماته»! وقد بقيت هذه «تسوية غير معلنة خارج المحكمة»، فيما كل الذين صرفوا لم يكونوا ليكلفوا المؤسسة أكثر من عقد صيانة!

al-akhbar