تلاشى «الحلم» بالوظيفة المصرفية «المحترمة» مع تحوّل المصارف إلى كابوس يقضّ مضاجع اللبنانيين. الوظيفة التي طالما طمح إليها كثيرون بسبب ما يصحبها من تقديمات، لم تعُد اليوم «أكلة»، مع موجة الصرف التي تطال موظفي القطاع، والتوقعات بإعادة هيكلة المصارف ودمج بعضها، وهو ما ينعكس تراجعاً كبيراً متوقعاً في السنوات المقبلة، في أعداد الطلاب الراغبين في دراسة «البانكينغ»
كَوَت هذه البروباغندا وعي الطلاب اللبنانيين إلى حدّ كبير، على «رغم المخاطر التي كانت بدأت تطل برأسها منذ سنوات، خصوصاً منذ بداية عام 2017، مع الارتفاع الكبير في أسعار الفوائد. إلا أنّ التقديمات البراقة ظلت أقوى من المعطيات العلميّة بالنسبة إلى كثيرين بقي العمل في القطاع المصرفي بعد التخرج هدفهم الأول، رغم أن راتب الموظف الجديد لم يكن يزيد على مليون ليرة»، بحسب مدير قسم الماجستير في إدارة الأعمال في الجامعة اللبنانيّة الأميركية ربيع نعمة.
وحتى نهاية عام 2018، بلغ عدد العاملين في القطاع المصرفي، وفقاً لجمعية المصارف (قبل موجة الصرف التي طالت ولا تزال مئات الموظفين، وتسارعت بعد 17 تشرين الأول الماضي)، 25908 موظفين، 80% منهم من حمَلة الشهادات الجامعيّة، وغالبيتهم من فئة الشباب ما دون 40 عاماً (64.6% من الإناث و55.5% من الذكور). ولطالما شكّل العمل في المصرف جسر عبور سريع من العزوبية إلى الزواج (نسبة العازبين 36.5% من مجموع العاملين في القطاع نهاية عام 2018)، نظراً إلى التقديمات التي تؤمّنها هذه «الوظيفة»، كالتأمين الصحي والمنح الدراسية ومنح الزواج والولادة، إضافة إلى راتب سنوي ينقسم على 16 شهراً وغيرها.
بسبب الأزمة الحالية، يلفت نعمة إلى أن «التراجع في عدد الطلاب سيطال مختلف الاختصاصات وفي كل الجامعات الخاصة. إلّا أن القطاع المصرفي، بلا أدنى شك، فقد جاذبيته بالنسبة إلى الطلاب أقله في المستقبل المنظور، وهم سيفضلون اختيار وظائف أخرى تؤهّلهم لها الشهادة في التمويل». علماً أن «المشكلة، بحسب الخبير الاقتصادي والأستاذ الجامعي جهاد الحكيّم، لا تكمن في الاختصاص نفسه، بل «في النظام المصرفي اللبناني الذي يعتريه كثير من الشوائب. فالطلاب، في الجامعات، يُؤسّسون بشكل مثالي، إلّا أن طريقة العمل المتبعة في القطاع لا تتطلب كثيراً من المهارات، لأن معظم العمل يتركز على استقطاب ودائع واستثمارها في سندات الخزينة، وتحويل الموظف إلى بائع كسول ينحصر عمله في تسويق بطاقات الائتمان». أما «الخطر»، وفق الحكيّم، فـ «سيكون على المدى الطويل. إذ قد يختار كثير من الأساتذة الجامعيين الهجرة ما قد يؤدي إلى هبوط حاد في المستوى. أضف إلى ذلك أن تراجع التوظيف في القطاع قد يؤدي إلى ظهور عدد كبير من الخريجين الجدد، لكن من دون أي خبرة عمليّة».
لا تطبيق عملياً في المصارف لما يتعلّمه الطلاب عن العمل المصرفي المسؤول وإدارة المخاطر
الخشية نفسها تعبّر عنها عميدة كلية إدارة الأعمال والاقتصاد في جامعة سيدة اللويزة فيفيان نعيمة «من أن نشهد في المستقبل القريب نقصاً في الموارد البشرية الكفوءة، بسبب ازدياد هجرة الطلاب والمتخرجين، وعلى المدى المتوسط من هجرة الأساتذة الجامعيين بسبب تدهور أوضاع القطاع التربوي في لبنان». نعيمة تؤكد أن «القطاع المصرفي في لبنان سيكون، في المستقبل، مختلفاً بشكل جذري عما هو عليه اليوم، لجهة عدد المصارف وفروعها وطريقة عملها، ما سينعكس حكماً على فرص العمل»، لافتة إلى أن المسؤولية في تراجع الثقة بالقطاع والاختصاص معاً تقع على عاتق «المؤسسات المعنية. إذ أننا، كجامعات، نركّز على العمل المصرفي المسؤول، ويقوم خريجونا بعمل مهني جيد وفقاً للمعايير. فعلى سبيل المثال، ندرّس الطلاب إدارة المخاطر، لكن لا تطبيق عمليّاً لذلك في المصارف اللبنانية».
انعكاسات فقدان الثقة آنية أيضاً وليست مستقبلية فقط. إذ أن هذا العام «سيكون صعباً على الخريجين والطلاب الجدد لأن توجّه عدد كبير منهم كان إلى العمل في القطاع المصرفي الذي يمرّ الآن في مرحلة صعبة»، وفق عميدة كلية إدارة الأعمال في جامعة الروح القدس – الكسليك دانيال خليفة، رغم أن «أزمة القطاع المصرفي يجب أن تكون محفّزاً للطلاب لدراسة هذا الاختصاص والتعمق به لأن ما شهدته المصارف في لبنان حالة تُدرّس على مستوى العالم»، بحسب عميدة كلية إدارة الأعمال بالوكالة في جامعة البلمند هالة خير يعقوب، مرجّحة أن يتحوّل توجه الطلاب في المرحلة المقبلة «نحو ريادة الأعمال أو أي وظيفة أخرى في القطاع المالي سواء في الشركات أو الأسواق الماليّة رغم أنه لا يمكن أن يُبنى أي اقتصاد بلا قطاع مصرفي صلب». ولأن التهديد يمكن أن يُحوّل إلى فرصة، فإن «الواقع الحالي قد يكون فرصة لترسيخ مفاهيم العمل المصرفي المسؤول للطلاب»، بما قد يعيد إلى العمل في المصارف وهج «الحلم» الذي كان يشكّله، ولكن مصحوباً بأخلاقيات في العمل ابتعد عنها القطاع المصرفي ما حوّله إلى كابوس مزعج للبنانيين.
al-akhbar