كان السعي الأميركي و يكاد لا يزال مستميتا من اجل السيطرة على العالم و رغم كل الإخفاقات التي وقع فيها المشروع الأميركي العالمي القائم على فكرة الأحادية القطبية فان كثيرا من أرباب هذا المشروع لا يزالون مصرون على المحاولة و يتصورون وجود فرص لإنقاذه رغم ان أحدا من العقلاء لا يرى ان فرص نجاح الأحادية القطبية فيها شيء من العقلانية و الموضوعية بل نكاد نرى إجماعا بين الباحثين و الاستراتيجيين العقلاء الموضوعيين ، على القول بموت الأحادية و تشكل البيئة الدولية لنظام عالمي قيد التشكل حاليا قائم على تعددية المكونات و المجموعات الاستراتيجية ، نظام لا ينفرد به احد و لا يقصى عنه ألا الضعفاء الخائرون القوى و يكون للمكون فيه من الوزن و النفوذ مقدار من يملك من قوة و قدرة ذاتية او تحالفية ..
بيد ان أميركا التي خسرت منطقيا مشروعها الأحادي القطبية تصر على محاولة السيطرة و أسقاط الأعداء و محاصرتهم ، و يبدو لها الشرق الأوسط الميدان الرئيسي للعمل المجدي نظرا لخصائص هذا الميدان و جغرافيته و ثرواته ، و من اجل الإمساك الأحادي بالمنطقة عملت أميركا باستراتيجيات متتابعة مختلفة ، كلما تعثرت في واحدة انتقلت إلى أخرى بدءا من العام 1990 أي بعد تفكك الاتحاد السوفياتي حيث سارعت إلى زج جيوشها و جيوش حلفائها في جبهات الشرق الأوسط عملا ب”استراتيجية القوة الصلبة ” التي تعثرت في العام 2006 حيث عجزت في لبنان عن تحقيق أهداف إسرائيل وأميركا في الميدان عجزا اجبر أميركا إلى التحول إلى “استراتيجية القوة الناعمة” التي سقطت هي الأخرى في العام 2009 في ايران بعد لبنان ، فكان تحول أميركي إلى “استراتيجية القوة العمياء ” و الحروب البديلة التي تخوضها أميركا بتجميعات إرهابية شكلت و استجلبت و زجت في الميدان تحت عناوين دينية تحاكي ما كان قاله رئيس السي أي أي C.I.A. السابق في محاضرته أمام معهد عسكري في أميركا في العام 2006 أي بعد هزيمة إسرائيل و أميركا في جنوب لبنان حيث قال هذا المسؤول السابق ” علينا ان نصنع لهم سلاما يناسبنا فينقسمون حوله و يقتتلون حتى يتأكلون ثم يستغيثوا بنا فعنود اليهم محتلين مجددا “.
وبمقتضى “استراتيجية القوة العمياء ” هذه شنت الحرب الكونية على سورية، لكن سورية صمدت في مواجهتها واستطاعت بعد ان كانت فقدت السيطرة على 80% من أرضها في العام 2015، استطاعت ان تستعيد السيطرة على أكثر من 80% من مساحتها ووجهت بذاك رسالة حاسمة وقاطعة لقوى العدوان وعلى راسها أميركا بأنهم فشلوا وان استراتيجيتهم أخفقت كما فشلت سابقاتها الصلبة والناعمة واصطفت العمياء إلى جانب ما مضي.
و بدل ان تقر أميركا باستحالة مشروعها و تتحول عنه إلى نهج واقعي عادل تعترف فيه للأخرين بحقوقهم ، أمعنت في النهج العدواني و ابتدعت استراتيجية عدوان رابعة قد تكون الأكثر خبثا و كيدا مما سبق ، استراتيجية عبر عنها احد المنظرين الاستراتيجيين لديهم في محاضرة القاها في إسرائيل في 1122018 اكد فيها ان المواجهة الجديدة ستكون مختلفة عما عداها و يجب ان تنجح هذه المرة في تحقيق المبتغى ، فهذه المرة “ليس الهدف تحطيم المؤسسة العسكرية للعدو بل الهدف هو الإنهاك و التأكل البطيء” لقوى العدو ويكون ذلك بزعزعة الاستقرار في دولة الخصم و هو امر ينفذه مواطنون من الدولة بوجه حكوماتهم ، و حصار و تجويع يمارس من الخارج حتى يثور الشعب بوجه الحكومة يمارس ذلك بشكل متواصل وصولا إلى إرغامه على المجيء راكعا إلى طاولة التفاوض والخضوع لإرادتنا .”
هذه هي استراتيجية أميركا اليوم في المنطقة، الاستراتيجية التي تترجم في لبنان حصارا ودفع إلى التآكل وعدم الاستقرار، وهذا ما يفسر كل ما جرى من أذار 2019 حيث أطلق بومبيو خطة أسقاط لبنان من بيروت. . ان استراتيجية القوة الخفية الذكية التي تشن أميركا بمقتضاها الحرب على لبنان وتدعي أنها حربا على حزب الله فقط، تترجم بالتلاعب بالنقد الوطني والحصار الاقتصادي والتهويل بالتجويع وأخيرا بطرح “حياد لبنان” وما أنتجه الطرح من انقسام في لبنان ينذر بانفجار داخلي لم يعد أمره مستبعدا في ظل الاحتقان القائم بسبب طرح عقيم لا أرضية واقعية مطلقة لنجاحه، طرح علم صاحبه استحالة تطبيقه واستمر مصرا عليه، وهنا الارتياب الشديد من الطرح وصاحبه، حيث يبدو ان المقصود هو التشرذم والانقسام وليس تنفيذ الطرح بذاته.
أما في سورية فان “استراتيجية القوة الخفية الناعمة تترجم بالمقولة الأميركية “إطالة أمد الصراع” ومنع الحل السياسي ومنع الحسم العسكري ما يقود إلى الإنهاك والتأمل وهذا ما تنفذه أميركا بيدها وعبر أدواتها تركيا والجماعات الإرهابية ويعطى الدور المتقدم فيها لتركيا وقسد والأن تحرك جماعات المسلحين في الجنوب، طبعا يضاف إلى هذا ما جاء به قانون قيصر من حصار وخنق لسورية اقتصاديا وماليا ورغبة في فرض عزلة دولية كامل عليها اقتصاديا.
و نصل إلى ايران حيث تبدو تطبيقات “القوة الخفية الذكية” من طبيعة مختلفة قسوة و إيلاما ، فقد لجات أميركا و إسرائيل إضافة إلى الحرب و الإرهاب الاقتصادي ضد ايران ، و بعد ان مارست عمليات الاغتيال الصريح المعلن عنها ، لجات إلى الحرب السيبيرانية و عمليات الخلايا الإرهابية لتنفيذ التخريب و الأخلال بالأمن في الداخل الإيراني و ترجم هذا باغتيالات لمسؤولين ، و تفجيرات لمراكز ذات صلة بالملف النووي الإيراني السلمي ، و حرائق في مراكز اقتصادية استراتيجية و اعتداءات على مراكز عسكرية ، تطبيقا لاستراتيجية “القوة الخفية الذكية” التي تسببت في ايران بخسائر بشرية و مادية انتتجت حذرا و فرضت تأهبا لا بد منه.
وبهذا نقول وضوحا ان المنطقة والعالم عامة ومحور المقاومة بشكل خاص دخلوا في طور جديد من المواجهة مع أرباب المشروع الصهيون-أميركي، مواجهة تعتمد استراتيجية القوة الخفية الذكية المركبة من أخلال بالأمن، وحصار اقتصادي، وأعمال قتل وتخريب لا يعلن عن الفاعل فيها (ولذلك هي قوة خفية) ويقوم بتنفيذها بشكل رئيسي مواطنون من الدولة المستهدفة، عملاء او مغرر بهم، وخلايا مسلحة خفية نائمة او علنية رافضة للحكومة، وتدار بيد أميركية صهيونية تعلن عن نفسها حينا وتبقى متخفية أكثر الأحيان.
بيد ان الدفاع في مواجهة القوة الخفية الذكية المركبة ليس امرأ سهلا حيث لا بد ان يكون أيضا دفاعا مركبا فيه التدابير الداخلية لتحصين المناعة الداخلية منعا للإنهاك المعنوي ، و فيه اجتراح البدائل لتعطيل مفاعيل الحصار الاقتصادي ، و فيه التدابير السياسية و الأمنية للمحافظة على الاستقرار الداخلي و منع زعزعته ، و أخيرا و هذا الهام جدا فيه العمليات الانتقامية و ردود الفعل المؤلمة ضد العدو عبر عمليات امنيه و هجومات سيبيرانية و أعمال انتقامية تصيب بنيته و هذا ما بدأت ايران بفعله و يقتضي تكثيف العمل على هذا المسار حتى يشعر العدو بالألم فيتوقف عن العدوان.
وعليه نرى ان شروط نجاح أميركا في استراتيجية القوة الخفية الذكية المركبة هي 4: وجود مواطنين في الدولة يرتضون التحول إلى عملاء لها لزعزعة الاستقرار وعجز الدولة عن احتوائهم ومنعهم من ارتكاب جرائهم، ثم عجز الدولة عن إيجاد البدائل الاقتصادية التي تمنع الجوع والانهيار، وأخيرا عجز الدولة عن القيام بالأعمال الدفاعية الانتقامية ردا على الحرب السيبيرانية والإرهابية التخريبية.
و في تقييم أولي نجد ان ايران بما لديها من قوة و إرادة و خبرة قادرة على المواجهة ، و قادرة على انزال الهزيمة بالعدو في استراتيجيته الرابعة هذه ، أما سورية التي صمدت و انتصرت في مواجهة اعتى حرب كونية تستهدف دولة فأنها تملك القدرة و الخبرة و الثقة و الإرادة على أفشال أميركا و إسرائيل في هذا النمط الجديد أيضا ، و يبقى لبنان الذي قد يشكل خاصرة الضعف في المشروع نظرا لاعتبارات ديمغرافية و سياسية و بنوية و طائفية و هذا ما يستلزم الاستعداد و الحذر ، و رغم ثقتنا بقدرة المقاومة و حلفائها في السلطة و خارجها كما و مناعة بيئة المقاومة ثقتنا بقدرتهم على المواجهة حتى تحقيق فشل المشروع ألا أننا نرى انه من الواجب التحذير من خطورة الموقف .
el-nashra/ Amin Hoteit