كان يمكن القول إن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون استقى خريطة طريق «الإصلاحات» التي فرضها على لبنان، من أوراق قوى السلطة التي قدّمت له مساء الثلاثاء الماضي. كان ذلك ممكناً لو أن هذه الأوراق ليست بنوداً شائعة منذ عقود، وليست أفكاراً «مجعلكة» لا تستجيب لحجم الأزمة وتداعياتها. كان ذلك ممكناً أيضاً، لو أن ماكرون لم يستخدم صيغة الأمر والنهي والتهديد والوعيد بشكل مباشر وعلني. هكذا بدت أوراق قوى السلطة حبراً على ورق. فاقدة لشرعية التطبيق، ولا تستهوي المستعمر القديم – الجديد. ربما ظنّوا أنها ستمرّ على ماكرون، بينما هو آتٍ لتلقينهم درساً في الاستعمار والرأسمالية
تنظر قوى السلطة في لبنان إلى الأمر من زاوية مختلفة. فرغم أهمية التغيير في مصرف لبنان بما يشكّله ذلك من فرصة لنقاش مستقبله ودوره، إلا أن هذه القوى لم تبذل جهداً لتطوير رؤيتها، بل كرّرت ما تحفظه غيباً عن مسائل تحتار بشأنها أو تتعارك عليها أو حتى مشتركة بينها. وقفت هذه القوى أمام ماكرون قاصرة عن مجاراته، وتفرّجت عليه بذهول وصمت وهي تحمل ثلاث أوراق عمل بائسة.
الأوراق الثلاث فيها الكثير من المسائل المشتركة، مثل التعامل مع صندوق النقد الدولي كمنقذ (ماكرون هو المصلح – المستعمر)… أما الخطّة التي على أساسها يفترض أن يتعاقد لبنان مع الصندوق، فهي إما خطّة الحكومة للإنقاذ المالي بعد إجراء تعديلات عليها، كما اقترح التيار الوطني الحرّ، أو «إصلاحات» تأتي من ضمن برنامج عمل حكومة مستقلّة كما اقترح الحزب التقدمي الاشتراكي، أو خطّة حكومية كمشروع للاتفاق مع صندوق النقد الدولي، بحسب ما اقترحت خريطة طريق كتلة التنمية والتحرير. طبيعة الخطّة ليست بأهمية الحفاظ على المكاسب، فالثلاثة يريدون إصلاحات في قطاع الكهرباء وتغذية بالتيار 24 ساعة يومياً، والثلاثة أيضاً يريدون هيئة ناظمة للكهرباء، وأخرى للاتصالات وإنشاء «ليبان تيليكوم»، وثلاثتهم يريدون شبكة أمان اجتماعية وتقديمات، وهم متفقون أيضاً على «إصلاح» القطاع العام، ومعالجة النفايات والكثير غيرها.
يصعب تفسير كل هذا الكذب. الأرجح أن هذه القوى تنتظر المبعوث الفرنسي لمعالجة كل ما تطرحه. أثيرت هذه المشاكل أمام ماكرون ليعلم أن المشكلة في مكاسب كل الأطراف (المكاسب التي تختلف حولها كل القوى السياسية التي قدمت أوراقاً أو لم تقدّم). لم يناقشوه في وجهة السياسات النقدية والمالية، ولا في مسألة التدقيق بالحسابات (أي حسابات قصد ماكرون، حسابات مصرف لبنان أم حسابات المصارف؟)، ولم يقولوا له إنهم اختلفوا على هذه المكاسب بعد عقود على وجودهم في السلطة (باستثناء التيار الذي دخل مجلس النواب عام 2005).
الحزب التقدّمي، هو أكثر المتأخرين في المناداة بالإصلاح، فها هو يريد اليوم التغطية الصحية الشاملة. يوم طُرحت التغطية الصحية الشاملة من قبل وزير العمل آنذاك شربل نحاس، لم تكن مطلباً له يقاتل في سبيله خصومه السياسيين، لكنها اليوم صارت مطلباً تقدمياً اشتراكياً. في المقابل، رئيس الحزب النائب وليد جنبلاط مهتم جداً بالوضع المالي إلى درجة تضمين ورقة الحزب بنداً بعنوان «إصلاحات قانونية» يتضمن: «تطبيق القوانين المصرفية والنقدية والتي تتيح لمصرف لبنان إعادة هيكلة القطاع المصرفي». وفي بند «تصحيح السياسات النقدية» يشير إلى «التعاون التام مع صندوق النقد الدولي للتوصل إلى التأكيد على: حماية كل الودائع المصرفية وعدم المسّ بها كحق أساسي كرّسه الدستور؛ ضرورة احترام القوانين المصرفية والنقدية والإتاحة لمصرف لبنان تطبيقها وتخفيض الفائدة على الودائع والقروض المصرفية القائمة». لعلّ الحزب التقدمي ورئيسه جاهلان في قانون النقد والتسليف الذي يمنح الحاكم والمجلس المركزي صلاحيات مطلقة في السياسة النقدية والمصرفية. لكن قلب جنبلاط يخفق للودائع!
هناك نسخة ثانية من نموذج التقدّمي. إنها كتلة حركة أمل. تريد هذه الكتلة مكافحة كورونا وتعزيز الحماية الاجتماعية بالتعاون مع الشركاء الدوليين. وتريد أيضاً التدقيق التشريحي لمصرف لبنان بالاستفادة من خبرات البنك الفرنسي لهذه المهمة! طبعاً مطلب الكتلة يتماهى مع مطلب سلامة عندما رحّب بالخبراء من المصرف المركزي الفرنسي للتدقيق في حساباته، لكن ما هي خبرات البنك المركزي الفرنسي في التدقيق الجنائي؟ صفر. البنك المركزي الفرنسي يعمل مثل البنوك المركزية الأخرى، فيرسم سياسات نقدية وينفذها ضمن سلّة أهداف ليست متصلة بتقديم خدمات خارجية. لا يعرف عن البنوك المركزية حول العالم بأن لديها أقساماً للتدقيق الجنائي في حسابات مصارف مركزية أخرى.
ثلاثة أوراق «إصلاحية» بائسة تلقاها ماكرون من «التيار» و«أمل» و«الاشتراكي»
مطالب الكتلة منفّرة بدرجة ما، لأنها لم تترك السلطة يوماً. فهي تريد هيئة ناظمة للكهرباء، وكهرباء 24 ساعة، وتطالب بتشكيل الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد وإقرار قانون الشراء العام مشترك بين الأوراق الثلاث أيضاً)، ومشروع قانون الجمارك… كلها مشاريع مشتركة مع باقي قوى السلطة، لكن لم يقرّ منها شيء!
ينطبق الأمر نفسه على التيار الوطني الحرّ الذي كان وزراؤه يردّدون «ما خلّونا». «ما خلّونا نعالج أزمة الكهرباء». لكن التيار يعتقد، مثل غيره، أن مكافحة الفساد تكون عبر إقرار الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد، وأن خطّة ماكينزي هي العلاج الاقتصادي للبنان رغم أنها مجرّد ملف محدّث من عشرات الملفات والخطط المرمية في الإدارات الرسمية. أيضاً يريد التيار إقرار قانون الشراء العام، وتطوير خطّة الإنقاذ الحكومي لتكون منطلقاً للتفاوض مع صندوق النقد الدولي. كلام التيار يوحي بأنه استقرّ على رأي بشأن هذه الخطّة التي شارك في إعدادها مستشار رئيس الجمهورية شربل قرداحي بشكل يومي وبمتابعة يومية من رئيس التيار جبران باسيل، بينما نسفها رئيس لجنة المال والموازنة ابراهيم كنعان! عن أي خطّة يتحدث التيار؟
ثمة الكثير للمقارنة بين ما تقوله قوى السلطة وما لا تفعله، أو ما تقوله وتريد منه شيئاً آخر، أو ما تقوله علناً وتفعل عكسه سرّاً… لكن هذه القوى لم تلتفت إلى أن ماكرون جاء ليلقّنها درساً في الرأسمالية. يقول أحد مستشاري الرئيس نجيب ميقاتي إن الرأسمالية التي تمارسها قوى السلطة في لبنان هي «رأسمالية الخلّان» وإن ماكرون جاء يعلّمنا الرأسمالية الفعلية المطبّقة في بلاد الغرب حيث سنرى فوائد الخصخصة والأسواق المالية وفوائد المنافسة وفوائد العولمة وفوائد أن نكون عنصراً منتجاً في المجتمع الدولي. هذا ما يريده ماكرون. يريد إعادتنا إلى طريق الرأسمالية «الصحيح» عبر إطاحة القطاع العام وتقديم خدماته على طبق من ذهب للقطاع الخاص (للرأسماليين). رأسماليو لبنان، وهم قوى السلطة في الوقت نفسه، يعلمون أن الخصخصة بكل مسمياتها هي الأداة، ويدركون أهمية الحصول على هذه المغانم من دون شبهات فساد، لكنهم لا يعلمون السبيل. ماكرون وحده يعلم السبيل.
al-akhbar