في كارثة المرفأ، في الرابع من آب الماضي، استشهد عشرة من عناصر فوج إطفاء بيروت أثناء محاولتهم إطفاء الحريق الذي اندلع في العنبر 12 قبل وقوع الكارثة. شُيّع الشهداء العشرة كما يليق بهم. لكن ما لا يعرفه كثيرون أن الفوج اضطر يومها إلى استئجار سيارات لنقلهم إلى مساقط رؤوسهم لعدم توافر آليات مناسبة لديه، فيما لم تدفع بلدية بيروت، حتى اليوم، كل نفقات التشييع!
لماذا بلدية بيروت؟ لأن الفوج ليس جزءاً من مديرية الدفاع المدني، كما يعتقد كثر، بل جهاز مستقلّ – على غرار فوج حرس بيروت – تابع للبلدية… وهنا أصل المصيبة!
في مركز الفوج الرئيسي في الكرنتينا، أُنجزت ورشة إزالة الركام والأضرار الناجمة عن انفجار المرفأ بمساعدة عشرات المتطوعين والمتطوعات، وعاد كلّ شيء كما كان قبل الكارثة… لكن ما كان لم يكن جيداً في الأساس. في إحدى زوايا الباحة الرئيسية للمركز سيارات إطفاء وإسعاف لا تزال في مكانها منذ ما قبل الانفجار. إذ أنها «معطلة منذ سنوات… ولم تلبِّ بلدية بيروت طلب إصلاحها ولم تشترِ آليات بديلة»، بحسب أحد ضباط الفوج. ماذا ينقصكم؟ يجيب بأن السؤال الأجدى أن يُطرح: «ماذا لدينا في الأساس؟»، مستعرِضاً «رأسمال» الفوج الذي يُفترض أن يلبّي حاجات حوالى نصف سكان لبنان ممن يقيمون في عاصمته: «تتضمن تجهيزات الفوج 13 سيارة إطفاء، طراز أحدثها يعود إلى 2008، ست منها فقط قيد الاستعمال فيما البقية معطلة ومركونة تنتظر تصليحها. وهناك ستة صهاريج مياه لإطفاء الحرائق، ثلاثة منها فقط تعمل، إلى جانب عدد من سيارات النقل من نوع «رابيد» المعطلة أيضاً. أما كل ما يملكه الفوج من سلالم آلية فلا يتعدّى الثلاثة، جميعها لا يعمل»! وإلى النقص في الآليات، لا يملك الفوج كواشف ضوئية ليلية وأجهزة إنارة وقوارير أوكسجين متطورة للأفراد أو أجهزة لاسلكية للتواصل بين العناصر أثناء تنفيذ المهمات. وهنا أصل الفجيعة! فقبل خمس سنوات، استشهد العريفان في الفوج عادل سعادة ومحمد المولى خلال مهمة إطفاء حريق في مستودع تحت الأرض في منطقة مار الياس، لعدم توافر أجهزة التواصل اللاسلكي بين أفراد المهمة وأجهزة تنفس متطورة. يومها، نزل الشابان إلى المستودع الملتهب وضلّا طريق الخروج قبل أن ينفد الأوكسجين منهما ويقضيا اختناقاً تحت الأرض. الموت الذي وقع في 2015، لم يكلّف البلدية حتى الآن عناء معالجة أسبابه لمنع تكراره، في وقت لا تتوانى عن صرف ملايين الدولارات على القرية الميلادية وزينة رمضان والحفلات الترفيهية.
بالمقارنة، فإن فوج إطفاء الضاحية، مثلاً، مجهّز بعشر آليات إطفاء وصهريجين كبيرين بسعة 15 ألف ليتر لكل منهما وسلم للإنقاذ بارتفاع 42 متراً، فضلاً عن آليات دعم تتضمن جرافتين و«ونش» وأجهزة إنارة متنقلة ومضخات لسحب المياه من الأماكن المكشوفة وأربع عوامات. كما ينفرد الفوج، على مستوى أفواج إطفاء لبنان، بامتلاك دراجات مجهزة للإطفاء. وقد برز دوره في كارثة انفجار مرفأ بيروت عندما ساهم عشرات العناصر والآليات الحديثة في إطفاء الحرائق ورفع الركام وانتشال الضحايا. كما فرض حضوره في الكوارث المتنقلة بين المناطق من حرائق الشوف العام الماضي الى حرائق عاليه الأخيرة. فيما يمتلك فوج الاطفاء التابع لاتحاد بلديات بنت جبيل (مقره بلدة برعشيت) سبع آليات تتناسب مع طبيعة الأحراج والأحياء السكنية، ويمتلك فوج اطفاء صيدا أربع آليات إطفاء كبيرة، وآليتين من الحجم المتوسط وآلية صغيرة وخزانات وسيارة دعم وإنقاذ تضم أجهزة تنفس حديثة، وبدلات حديثة مجهزة للعناصر!

شبيب: الحق على البلدية
حادثة مار الياس وقعت في عهد محافظ بيروت السابق زياد شبيب الذي يحمّله عدد من عناصر الفوج مسؤولية التهميش والتقصير اللذين لحقا بالفوج طوال السنوات الست التي أمضاها في منصبه. فيما يرفض شبيب الاتّهامات ويحيلها إلى بلدية بيروت، مؤكداً لـ«الأخبار» أن «ضميري مرتاح لما قدمتُه للفوج ولما حاولت تقديمه. لكني لا أملك القرار في تأمين النواقص، لأن المجلس البلدي هو من يتولّى المشتريات». لا يكتفي شبيب باتهام البلدية بالتقصير، بل يلمح إلى شبهات فساد. فـ«محاولاتي لتأمين النواقص للفوج لم تصل إلى نتيجة بسبب البلدية. كنت أطلب من قائد الفوج دائماً أن يُطلع الأعضاء البلديين على حاجياته. أحياناً وضعوا تصوّراً للشراء، ولكن عند التلزيم، وبدل طلب مشتريات ضمن الإمكانيات بكلفة مقبولة، كانت التكلفة تُزاد أضعافاً مضاعفة، كما حصل عندما تقرر إجراء تلزيم لشراء سيارات إسعاف. إذ لم تُستكمل العملية لأن المجلس رفع الكلفة لأسباب أجهلها». وعمّا إذا كان ذلك يعني خضوع التلزيم للمحاصصة والتنفيعات، يجيب شبيب: «كلو ممكن. معقول كتير». كما يلفت إلى أنه «بعد حادثة 2015، اقترحتُ على قوى الأمن الداخلي إشراك فوج الإطفاء في شبكة الاتصالات التابعة لها. وقد أبدى وزير الداخلية آنذاك نهاد المشنوق تجاوباً وكلّف أحد الضباط التنسيق مع قيادة الفوج والبلدية. لكنهم لم يصلوا إلى نتيجة».
مصدر في بلدية بيروت نفى لـ«الأخبار» اتهامات شبيب، مُعيداً سبب تأخر البتّ بالتلزيمات لتأمين أجهزة التواصل والإسعاف تحديداً، إلى «الإجراءات الروتينية الإدارية». فيما حمّل مصدر في الفوج مسؤولية التقصير للبلدية وشبيب معاً بعدما «أدّت الممارسات الكيدية والنكايات بين بعضهما بعضاً إلى تجميد ملفات مهمّة». وأكد صحة اتهامات شبيب لبعض أعضاء المجلس البلدي بـ«استغلال المنصب للمنفعة الشخصية»، أنه في عملية تلزيم شراء أجهزة اللاسلكي «وُضعت عدة دفاتر شروط على قياس جهات نافذة على علاقة ببعض الأعضاء، قبل أن يتم التوافق على تلزيمها لنجل أحد كبار المتعهدين وبكلفة عالية جداً. إلا أن التدخلات السياسية خرّبت ذلك التلزيم، لكنها لم تضغط لاستبداله بآخر شفاف».
محافظ بيروت مروان عبود قال لـ«الأخبار» إنه عندما زار مركز الكرنتينا، للمرة الأولى بعد الانفجار، «فوجئت بمستوى عدم تجهيزهم، ووعدتهم بتحسين ظروفهم». وأكد أن «طلبي الأول من الدول التي تسألنا عن نوع المساعدات التي نحتاجها هو تعزيز إمكانيات فوج إطفاء بيروت. الجانب الفرنسي تجاوب ثم أبدت إيطاليا نيّتها إرسال تجهيزات».

13 سيارة إطفاء ست منها فقط قيد الاستعمال وثلاثة سلالم آلية كلها لا تعمل

عبود نفّذ منتصف الشهر الماضي وعده لأهالي الشهداء بإقرار تثبيتهم المؤجّل منذ بداية عام 2019، بسبب عراقيل إدارية وأخذ وردّ بين شبيب وقيادة الفوج من جهة وشبيب والمراقب العام في البلدية من جهة أخرى. 354 متطوعاً إطفائياً ومهنياً وسائقاً ومسعفاً، من بينهم ستة شهداء قضوا في انفجار المرفأ، انضموا إلى ملاك الفوج ليصبح عديده ألفاً وأربعة عناصر من بينهم 30 مسعفة (استشهدت منهنّ سحر فارس).
في مقابل عقدة التثبيت التي حلّتها دماء شهداء المرفأ، تبقى عقدة نظام التقاعد. فقد شهد عهد شبيب، قبل أربع سنوات، بدء تطبيق نظام التقاعد لموظفي بلدية بيروت (من ضمنهم عناصر فوج الإطفاء والحرس). النظام الذي أُقرّ عام 2000، ميّز بين الموظفين المدنيين وعناصر الحرس والفوج لناحية سنّ التقاعد، في حين كان السائد سابقاً عوض التقاعد منح من يُنهي خدماته تعويض صرف نهاية الخدمة. النظام الحالي حدّد سن تقاعد الحرس والإطفاء بـ56 عاماً في مقابل 64 للموظفين الآخرين. لكنه اشترط للحصول على الحد الأقصى من المعاش التقاعدي (85 في المئة) أن يخدم الموظف 40 عاماً متواصلة. وبرغم أن أجور عناصر الفوج من الإطفائيين إلى القادة تُعتبر مقبولة قياساً إلى فئات وظيفية أخرى (الأجور ابتداء من مليونين و200 ألف ليرة)، إلّا أن سن التقاعد اعتبر شرطاً تعجيزياً للحرس والإطفاء الذين يستحيل عليهم تحقيق سقف الأربعين عاماً عندما يكون سن تقاعدهم 56 إلا إذا التحقوا بالفوج وهم ما دون الـ 18 عاماً!

بلدية بيروت تدرس
لم تنتهِ بلدية بيروت من دراسة مطالب عناصر الفوج منذ سنوات. تعديل نظام تقاعد عناصر الإطفاء بدأت دراسته منذ حوالى سنتين. وفق عضو بلدي، فإن الملف «يحتاج إلى دراسة قانونية ومالية. فنحن مؤتمنون على أموال الناس. وحالياً، لا يوجد تراخيص بناء أو تحصيل إيرادات». المطلب الثاني قيد الدرس، ترقية الضباط وإدخالهم في الملاك. في عام 2018، قرر المجلس البلدي «تعديل ملاك فوج بيروت وترقية كافة عديد الفوج المستحقين للترقية وعددهم 306 من ضباط ورتباء وأفراد». لكن شبيب «رفض ترقية الجميع بحجة أن ملاك الفوج لا يحتمل ذلك، فلحقت الترقية بالبعض وحُرم منها آخرون». أما بالنسبة إلى مطلب تعزيز التجهيزات والآليات، فقد لفت العضو إلى أن البلدية الحالية بعيد انتخابها عام 2016 «طلبت شراء معدات مناسبة للفوج، لكن كان على المحافظ أن يوقّع على المعاملة لتمشي»!

بلدية بيروت لم تدفع نفقات تشييع الشهداء!

ينفّذ عناصر فوج إطفاء بيروت اليوم تحرّكاً احتجاجياً أمام بلدية بيروت بالتزامن مع انعقاد جلسة لمجلس بلديتها عصراً. التحرّك يأتي بعد مرور شهر ونصف شهر على انفجار مرفأ بيروت الذي أدى إلى استشهاد عشرة من عناصر الفوج خلال عمليات إطفاء الحريق، و«لأن بلدية بيروت التي يتبع لها الفوج لم تكن بمستوى يليق بالتضحيات التي قدمناها» وفق أحد منظّمي التحرك. الاعتصام يأتي احتجاجاً على مماطلة المجلس البلدي في التوقيع على صرف بقية نفقات مراسم دفن شهداء الفوج! وفي التفاصيل، أن المجلس البلدي حوّل 20 مليون ليرة سلفة لقيادة الفوج لدفع نفقات المراسم، لكنها لم تكن كافية لتغطية مصاريف الجنازات العشر. وبحسب مصدر في الفوج، «قدّمنا طلباً إلى البلدية لصرف مبلغ عشرة ملايين ليرة لإتمام دفع النفقات. ومنذ أسابيع لا يزال الطلب مُدرجاً على طاولة المجلس البلدي، في انتظار التوقيع».
الاعتصام يأتي أيضاً للمطالبة بتنفيذ قرار البلدية الصادر عام 2018 والقاضي بترقية كافة عديد الفوج كافة، وللبتّ في صيانة آليات الفوج بعد تأخر وصول المساعدات التي تعهدت بعض الدول الغربية بإرسالها عقب انفجار المرفأ. علماً أن وفداً من الفوج التقى مرتين رئيس البلدية جمال عيتاني الذي أكد «عدم قدرة البلدية على تحمّل كلفة إصلاح الآليات المعطلة».

al-akhbar