من الواضح أنّ الذين قرأوا كلام رياض سلامة في خلال الاجتماع الشهري مع جمعية المصارف اللبنانية، ركّزوا على العبارة التالية:
«الأزمة الحادة باتت وراءنا». وبصرف النظر عن التفسيرات التي أُعطيت لهذا التعبير الذي قد يكون المقصود فيه انّ الكارثة وقعت، وبالتالي صار المطلوب التركيز على المرحلة المقبلة التي يُفترض ان تُخصّص للخروج التدريجي من الهاوية، من المهم التمعّن في القضايا الحسّاسة التي تحدّثَ فيها حاكم المركزي، من خارج سياق هذه العبارة التي أثارت بلبلة وجدلاً.
ما أثاره سلامة أمام ممثلي المصارف اللبنانية مُقلق، ويمكن مناقشته بنداً بنداً، إنطلاقاً من الوقائع التالية التي سَرَدها الرجل:
أولاً – الخطة الانقاذية مجمّدة.
ثانياً – لا وجود لخطة حول مقاربة التفاوض مع الدائنين بعد إعلان التعثّر في آذار 2020.
ثالثاً – المفاوضات مع صندوق النقد عالقة.
رابعاً – الدولة تموّل عجزها المتفاقم بطباعة الليرة بطلب من وزارة المال، سواء لسد عجز الموازنة، أو لتسديد استحقاقات سندات الدين بالليرة.
خامساً – دعم السلع لا يمكن أن يستمر لأكثر من شهرين أو ثلاثة على الأكثر، وسيتوقف بعدها كليّاً لعدم المس بالاحتياطي الالزامي لدى مصرف لبنان.
سادساً – ضرورة التزام المصارف بتطبيق مندرجات التعميم 154.
إنّ كلّ نقطة من هذه النقاط تستحق نقاشاً مستفيضاً، وهي أهم بكثير من عبارة «الأزمة وراءنا»، لأنها في الواقع تؤكّد أنّ الأزمة في بداياتها، وما هو متوقّع، اذا استمر المسار السياسي على حاله، سيكون أسوأ بكثير من المعاناة الحالية للبنانيين.
لعلّ واحدة من النقاط الأكثر سخونة هي تلك المتعلقة بتمويل الدولة عبر طباعة الليرة. والنقطة الثانية التي لا تقلّ خطورة هي تلك التي ترتبط بوقف الدعم الكلي في غضون شهرين أو ثلاثة على الأكثر.
في موضوع طباعة العملة، تبدو الامور دراماتيكية لأنّ القطاع المالي برمّته لم يعد يملك العملة الصعبة، في حين أنّ المخزون الدولاري المُخبّأ في المنازل بات يفوق مخزون كل المصارف اللبنانية في الداخل، ولدى المصارف المراسلة. وبالتالي، لم يعد متاحاً تسيير شؤون الدولة، ودفع الرواتب وتأمين الانفاق الداخلي الضروري، وتسييل الودائع الدولارية جزئياً بالليرة، سوى من خلال طباعة العملة. وهذا يعني انّ مسار التضخّم (هبوط سعر الليرة) هو مسار دائم وتصاعدي، بما يعني انّ كارثة التضخّم المفرط (Hyperinflation) باتت تدق الأبواب. واذا استمر هذا المسار القسري في ظل ظروف الجمود السياسي، وعقم السلطة التنفيذية المستقيلة، قولاً وفعلاً، فإنّ سعر الدولار، الذي يشكّل بوضعه الحالي أزمة ضخمة للبنانيين، سينتقل الى مكان آخر تنطبق عليه عبارة «جهنم» بدقة متناهية.
كذلك يفتح هذا الموضوع النقاش حول موازنة الدولة للعام 2020، والتي لم تبصر النور بعد، في حين انّ بند إقرار هذه الموازنة وارد في ورقة الشروط ضمن المبادرة الفرنسية لتشكيل «حكومة مهمة». إذ من شأن الموازنة، ولو متأخرة كثيراً، أن توضِح الحقائق المتعلقة بالتمويل، خصوصاً انّ وزير المالية سبق له أن نفى ما أثير سابقاً حول تمويل الرواتب والانفاق عبر طباعة العملة، في حين سمعنا سلامة يؤكد أمام المصارف هذا الأمر.
في موضوع توقّف الدعم والذي يخشى الناس ان يؤدي الى كارثة تفوق بأضرارها وتداعياتها أضعاف الكارثة الحالية، لا بد من التوقّف عند مسألة المبلغ الذي تمّ إنفاقه في غضون 8 اشهر من الدعم، والذي يقدّر بحوالى 10 مليارات دولار، وهو رقم كارثي. ومن المرجّح انّ المواطنين استفادوا واقعياً بما يوازي مليارين أو ثلاثة على الأكثر، في حين أُنفق ما تبقّى لتمويل التهريب والسرقة والتحايل والهدر والتخزين، والذي يُقال انّ بعض الأحزاب تتولّاه بنشاط لضمان قدرتها لاحقاً على دعم محازبيها عندما تنتقل الكارثة الى المرحلة النهائية الأصعب.
هذا الواقع، بالاضافة الى الرقم الذي بلغه الاحتياطي في مصرف لبنان، يعني انّ الدعم بمفهومه الحالي ينبغي أن يتوقف فوراً، وان يتم الانتقال الى ترشيد هذا الدعم. والأفضل اعتماد الطرح الذي سبق أن قُدّم، من خلال بطاقات التمويل الشهري. وفي حسبة بسيطة، واذا اعتبرنا ان كل عائلة في لبنان ستحصل على 200 دولار شهرياً، ووفق حسبة انّ هناك حوالى مليون عائلة (على أساس 4 ملايين نسمة، وبمعدل 4 أفراد في الاسرة الواحدة)، فهذا يعني 200 مليون دولار شهرياً. اذا أضفنا فاتورة دعم الفيول للكهرباء، ودعم القطاع الصحي في موضوع الادوية للحفاظ على قدرة الهيئات الضامنة، يصبح مجموع الفاتورة الشهرية حوالى 300 مليون دولار. وهذا يعني انّ الملياري دولار ونصف المليار المتبقية (خارج إطار الاحتياطي الالزامي الذي يبلغ حوالى 17 مليار دولار) تكفي لدعم كل العائلات اللبنانية، وتأمين الكهرباء والدواء لمدة 8 أشهر، وهي فترة كافية لتكون الخطط الانقاذية قد أقلعت وبدأت تعطي النتائج. وهذا يعني اننا لو اعتمدنا هذا النهج منذ إعلان الافلاس في آذار، لكنّا وَفّرنا مليارت الدولارات التي هُدرت بلا طائل.
al-jumhuriya