بعد قرابة عقد من الحروب والتدمير والتشويه والتيئيس، وفي ظلّ حملات إعلامية وسياسية تكاد تكون غير مسبوقة لشرعنة احتلال فلسطين وتكريس إسرائيل أمراً واقعاً لا مناص منه، تأتي نتائج قياس الرأي العام العربي صادمةً للجهات المختصّة في كيان العدو. صدمةٌ دفعت رئيس قسم الأبحاث في شعبة الاستخبارات العسكرية إلى التحذير من الاعتقاد بأن العالم العربي سينسى فجأة القضية الفلسطينية، التي لا تزال «تقف على أبوابنا كقنبلة موقوتة»
على أن ثمّة خصوصية للدراسة الحديثة، التي استندت إلى بحث أُجري بين 12 آب/ أغسطس و8 أيلول/ سبتمبر 2020؛ كونها تزامنت مع ذروة الاندفاعة الخليجية نحو التطبيع، الأمر الذي يعني أن الطرفين، المؤيّد والمعارض، كانا في ذروة التفاعل إزاء هذا الحدث. مع ذلك، تتجاوز الرسائل التي تنطوي عليها نتائج الدراسة، الحدث الخليجي، إلى كونها مؤشراً إلى توجّهات الرأي العام العربي حيال مجمل حركة التطبيع، وعاملاً مساعداً على استشراف المخاطر التي يستشعرها كيان العدو والمُطبّعون معه، ودليلاً على أن كلّ ما راكمه هؤلاء منذ «اتفاقية كامب ديفيد» عام 1978، مروراً بـ»اتفاقيتَي أوسلو ووادي عربة»، وصولاً إلى الاتفاقيات الأخيرة، يمكن أن يتهاوى في أيّ استحقاق لاحق. وتُمثّل الدراسة الحديثة جزءاً من مبادرة جديدة بقيادة وزيرة الشؤون الاستراتيجية، أوريت فركَش هاكوهِن، «وهي تهدف إلى معالجة الرأي العام السلبي حول إسرائيل، وخاصة عبر الإنترنت»، ما يعني أنها جزء من «معركة الوعي» التي يستهدف من خلالها كيان العدو الشارع العربي.
وكان المجلس الوزاري المصغر (الكابينت) قد قرّر في عام 2015 إلقاء مهمّة العمل ضدّ ما يُسمى في الأدبيّات الإسرائيلية «نزع الشرعية عن دولة إسرائيل» وضدّ حركة المقاطعة «BDS» على كاهل وزارة الشؤون الاستراتيجية والدعاية. وفي هذا الإطار، تتولّى الوزارة تنسيق الجهود الحكومية في «معركة الوعي»، بكلّ أبعادها، الدعائية والأكاديمية والاقتصادية والثقافية والقانونية، ومن ثمّ رفع تقييم دوري إلى الجهات المختصّة. وتُشكّل الدراسة حول التطبيع جزءاً من محاولة الوزيرة فركَش هاكوهِن، التي ستنهي ولايتها قريباً وتنتقل إلى وزارة السياحة، تغيير جوهر عمل الوزارة، كي تتوجّه نحو متابعة كيفية تناول إسرائيل على الشبكات الاجتماعية، انطلاقاً من فرضية أن جزءاً مهمّاً من النقاش يحصل هناك.
غالبيّة النقاشات العربيّة الافتراضيّة عَبّرت عن «مشاعر سلبيّة» تجاه التطبيع
في ما يتعلّق بمضمون الدراسة، فقد أظهرت أن «جزءاً كبيراً من الخطاب السلبي تَضمّن إدانة شديدة للإمارات والبحرين، مع اتهامهما بخيانة الفلسطينيين وتملّق إسرائيل والولايات المتحدة»، موضحةً أن هذه النتائج أتت على رغم أن حكومتَي أبو ظبي والمنامة بذلتا جهوداً كبيرة على الشبكات الاجتماعية من أجل تبرير خياراتهما: «خطاب ديني بهدف الدفاع عن البُعد الشرعي للاتفاقيات، وإبراز الفائدة الاقتصادية والسياسية، وإلغاء حكومة إسرائيل لخطّة الضم». وبيّنت الدراسة، التي تناولت النقاشات العربية في «فيسبوك» و»تويتر» و»إنستغرام» و»يوتيوب» في شأن الاتفاقيتين الإماراتية والبحرينية قبيل توقيعهما في البيت الأبيض، أن الغالبية الساحقة (90%) عَبّرت عن «مشاعر سلبية» تجاه التطبيع، مقابل 5% فقط أظهروا توجّهاً «إيجابياً»، واحتوت منشوراتهم كلمة «سلام». وتَوزّعت المواقف السلبية وفق الآتي: 45% ركّزوا على اتهام الإمارات بخيانة الفلسطينيين، و27% على معارضة الاتفاقيات مع الصهاينة، و10% على أن الاتفاق هو نفاق من جانب الإمارات، و5% على أنه استسلام للولايات المتحدة، و4% على أنه يعبّر عن طمع، فيما اطّلع أكثر من 100 مليون مستخدم على وسوم بارزة مِن مِثل «#التطبيع خيانة» و»#بحرينيون ضدّ التطبيع». في المقابل، تَوزّعت آراء المؤّيدين على أن للتطبيع منافع أمنية (61%)، أو جدوى اقتصادية (33%)، أو أنه تبييض لوضع قائم (6%). وفي محاولة لتفسير فشل محاولة الترويج للتطبيع على وسائل التواصل الاجتماعي، أرجعت الدراسة المنشورات «السلبية» إلى إيران و»حزب الله» و»حماس» والسلطة الفلسطينية، إلى جانب «مجموعة من منظمات المجتمع المدني التي تدفع نحو نزع الشرعية عن إسرائيل».
في التوصيات، دعت الدراسة إلى شنّ «معركة وعي» مضادّة، يتمّ خلالها التركيز على شبكات التواصل الاجتماعي باللغة العربية، وتحديداً في دول الخليج ودول أخرى قد يتمّ توقيع اتفاقيات أخرى معها. وشدّدت على ضرورة التركيز على المزايا الكامنة في الخطوات التطبيعية بالنسبة إلى الدولة المُطبّعة. من جهتها، أوصت وزيرة الشؤون الاجتماعية بمراقبة النشاط المناهض لإسرائيل على وسائل التواصل الاجتماعي، بما تُمثّله الأخيرة من «منصّة رئيسة لتكوين الرأي العام». ورأت أنه «نظراً إلى الأهمية الحاسمة لعمليات التطبيع بالنسبة إلى مستقبل الشرق الأوسط، وعلى ضوء هجوم خطاب الكراهية ضدّ شراكاتنا الخليجية الأخيرة، سنعمل على دفع عملية وعي إيجابية طويلة المدى باللغة العربية، ستُقدّم فوائد السلام». ويعني ذلك أن المرحلة المقبلة ستشهد تصاعداً في حملات التحريض والتشويه ضدّ قوى المقاومة، وتسويق الفوائد المزعومة لـ»السلام»، بهدف إنتاج رأي عام عربي مؤيّد لهذه العملية.
بالنتيجة، يمكن القول إن أجهزة التقدير والقرار في تل أبيب تلقّت صدمة كبيرة، لا من نتائج الدراسة فحسب، ولا من كونها تأتي في أعقاب حملات منظّمة تشنّها الجهات المؤيّدة للتطبيع، وإنّما من حقيقة أنها تأتي أيضاً بعد كلّ ما مرّت به المنطقة من حروب وتنكيل ودمار وحملات تحريض وتشويه وتيئيس، الأمر الذي يؤشّر إلى أن الموقف الرافض للاحتلال الصهيوني لفلسطين لا يزال يحتلّ وجدان الشارع العربي. من هنا، يصبح مفهوماً تنبيه رئيس قسم الأبحاث في شعبة الاستخبارات العسكرية «أمان»، العميد درور شالوم، في مقابلة مع صحيفة «يديعوت أحرونوت» قبل أيام (9/6/2020) تعليقاً على نتائج الدراسة، إلى أنه «محظور التفكير أنّ العالم العربي يتجاهل فجأة القضية الفلسطينية»، مُقرّاً بأنّ «هذه القضية تقف هنا على أبوابنا كقنبلة موقوتة».
al-akhbar