جريدة الأخبار – رامح حمية
وحدها نبتة حشيشة الكيف كانت «السند» و«المنقذ» للمزارع في بعلبك – الهرمل. ويبدو انها كذلك اليوم. مما لا شك فيه لدى المزارعين أن لا سبيل للمقارنة بين تكاليف زراعتها وكلفة باقي الزراعات التقليدية، فيما ارتفع سعر الحشيشة، الخام والمصنعة، وسط ازدياد الطلب عليها وتصريف غالبية انتاج الموسمين الماضيين. كل ذلك دفع جزءاً كبيراً من المزارعين إلى الرهان على الحشيشة للتعويض عن اي انتكاسة في الزراعات التقليدية. في نظر هؤلاء، باتت الحشيشة «القرش الأبيض» الذي يعوّضهم ما يخسرونه في يوم الانهيار الأسود
في المقابل، و«بالورقة والقلم» أيضاً، تكلّف زراعة دونم الحشيشة 9 آلاف ليرة ثمن ثلاثة كيلوغرامات من البذور، من دون حاجة الى أي نوع من الأسمدة والمبيدات، باستثناء الري، وهو ينتج قنطارين من الحشيشة على الأقل (القنطار يساوي 6 «هقّات»، والـ«هقة» تزن 1250 غراماً). سعر الـ«هقة» اليوم يبلغ 750 ألف ليرة، أي إن عائدات الدونم تصل على الأقل الى 4 ملايين وخمسمئة الف ليرة، فضلاً عن تسابق التجار على شراء المنتج «خضير» (تُشترى في أرضها ويتولى التاجر قصّ المنتوج وتشميسه ونقله الى مخازنه). يسأل أحد المزارعين: «بشرفك أي زراعة أفضل وأربح… ولو محلي شو بتعمل؟»!
«حسبة» كهذه، في ظل وضع معيشي وصحي كارثي، تعني أن النبتة المحرّمة ستغطي غالبية الأراضي والحقول من غرب بعلبك الى جرود الهرمل هذا العام. فالمزارع في هذه المنطقة، في «أيام الخير»، تُرك وحيداً في مواجهة مشاكل القطاع الزراعي وفي مصارعة التجار واستغلالهم له بهدف «زركه» ودفعه إلى البيع بأدنى الاسعار، فما بالك في ظل انهيار اقتصادي وتردّ معيشي وانهيار مالي؟ إذ إن أي نوع من الزراعات لن يعدو كونه مغامرة غير محسوبة، في ظل ارتفاع سعر صرف الدولار الذي ترتبط به كل التكاليف الزراعية، من البذور الى الكيماويات والأدوية والأسمدة والمحروقات، فضلاً عن أن الإنتاج يبقى رهن السوق والتصريف واحتكار التجار الكبار وبراداتهم.
ولذلك، تبدو الحشيشة «المنقذ» الوحيد في أحلك الظروف وأصعبها. إقرار مجلس النواب، في نيسان الماضي، قانون السماح بزراعة القنب الهندي «لأغراض طبية وصناعية»، كان إشارة ضمنية تلقّاها المزارعون بحماسة تُرجمت بزيادة مساحة الأراضي المزروعة بالحشيشة بنسبة 50%، فوصلت إلى أكثر من 30 ألف دونم العام الماضي، مع أن القانون لم يصبح نافذاً بعد. فلا مراسيمه التنظيمية أُقرّت، ولا هيئة ناظمة شُكّلت، ولا آلية استصدار التراخيص للمزارعين وُضعت. إلا أن هذا ليس السبب وراء عودة الانتعاش الى هذا «القطاع». الحشيشة اليوم «في أحسن أيامها»، يقول أبو علي وهو ينثر حبيبات القنبز في أحد الشعاب الجردية، بسبب «الطلب المتزايد عليها من التجار والمصنعين وبالسعر الذي يطلبه المزارع». في السنوات الماضية تكدس الإنتاج لدى التجار ووصل سعر «هقة الزهرة النخب» الى 200 دولار (300 ألف ليرة). لكن ارتفاع سعر صرف الدولار وتصريف إنتاج الأعوام الماضية لعبا دوراً في رفع سعر الـ«هقّة» الى 750 ألف ليرة. ساعد ذلك المزارعين على سداد ديونهم لتجار البذور والشركات والصيدليات الزراعية، وأدى الى زيادة مساحة الاراضي المزروعة هذا العام استناداً إلى الطلب المتزايد عليها. وحتى من سيغامرون بالخوض في زراعات تقليدية، كالثوم والبصل والبطاطا وغيرها، مع كلفتها الباهظة، لجأوا الى الخطة «ب».
الحشيشة اليوم «في أحسن أيامها» بسبب «الطلب المتزايد وبالسعر الذي يطلبه المزارع
قسّم هؤلاء أراضيهم وحقولهم الى قسمين، «للحشيشة حصة الأسد والباقي لغيرها من الزراعات»، يقول أحد المزارعين في غرب بعلبك، إذ «لا مجال للمغامرة ولا للمقارنة… هالموسم، ما في غير الحشيشة السند لإبعاد شبح الخسارة كما حصل الموسم الماضي»، مشيراً الى الكلفة المتدنية لزراعة دونم الحشيشة في مقابل سعر إنتاجها المضمون، وملاءمة زراعتها لطبيعة المنطقة ومناخها. والأهم لأنها «مجرّبة»، والثقة بها أكبر من الثقة بسياسات حكومية فاشلة لدعم الزراعات البديلة، كلّفت على مدى سنوات مليارات الليرات… فكانت النتيجة أن لا زراعات بديلة نجحت ولا تمويل وصل الى المزارعين. وحدها شتلة الحشيشة كانت، ولا تزال، مصدر «الرزق» شبه الوحيد، و«القرش الأبيض» في زمن الانهيار الأكثر سواداً.
حشيشة المواسم الماضية…. «طارت»
على وقع «رش» حبات القنبز في سهول قرى وبلدات في بعلبك الهرمل، أنهى عدد من تجار حشيشة الكيف، للتوّ، تصنيع «ما تبقى من محصول الموسم الماضي». «الزهرة» باب أول و«الكبشة» وغيرهما أصبحت «جاهزة للبيع أو للتهريب»، يقول أحد التجار في غرب بعلبك. ويوضح أن إنتاج المواسم الماضية كان يتكدس في المخابئ من عام الى آخر، لأن «الأسعار كانت بالأرض، لعدم وجود ممرات لتصريفها. العام الماضي تمّ تصريف إنتاج موسم 2019 وأكثر من نصف إنتاج موسم 2020 بأسعار جيدة، ولم يتبقّ سوى كميات محدودة بيعت وينتظر تصريفها». أين صُرّف إنتاج الموسمين الماضيين؟ يلفت أحد المصنّعين الى أن تردّي الوضعين الأمني والاقتصادي والطلب الكبير على الحشيشة من مصر والأردن وسوريا، بدءاً من منتصف العام الماضي، ساعد التجار والمصنّعين على تصريف ما حوته مخازنهم، ودفعتهم الى تقديم أسعار جيدة للمزارعين وشراء مواسمهم خضير، وحتى تصنيعها سريعاً، لتأمين كميات إضافية هذا العام في ظل «الطلب الكبير». ويشير عدد من التجّار الى أنه بعد انفجار المرفأ، في الرابع من آب الماضي، والانشغال السياسي والأمني بتداعياته، ناهيك بالأزمة الاقتصادية والسياسية التي أدّت إلى تراخي القبضة الأمنية، كل ذلك سمح بفتح أبواب جديدة للتهريب البحري والبري، خصوصاً تلك التي «تربط بين الساحلين اللبناني والسوري وصولا الى تركيا، فضلا عن الطرقات البرية بين البقاع والشمال وسوريا وقرى وبلدات حدودية تركية، ومنها الى الخليج العربي ودول اوروبية».