” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ”
الصدق والأمانة هما أساسان لاستقرار المجتمعات وسلامتها ، لأن الإنسان بصدقه وأمانته ترتفع أخلاقه وتسمو نفسه ، ويصبح أميناً على الحقيقة وعلى الناس ، والصدق والأمانة هما من أبرز الصفات التي اتسم بها سيد البشر (ص) ، حينما اختلفت قريش في وضع الحجر الأسعد في مكانه بالكعبة ، اتفقوا أن يكون الحكم بينهم أول قادمٍ من باب شيبة ، فأطلّ عليهم (ص) – وذلك قبل النبوة – فعلت الأصوات : جاء الصادق الأمين .
إنّ أول مراتب الصدق هو الصدق مع الخالق سبحانه ، وذلك بالسير على النهج الذي رسمه سبحانه للبشر ، فالصادق هو من يسير مع خالقه في كل ما يُرضيه سبحانه ، وثانياً أن يكون صادقاً مع نفسه؛ فلا يكذب على نفسه ولا يغشّها ، فلا يُزيّن لها أموراً تعود عليه بالضرر في الدنيا والآخرة ، وفي المرتبة الثالثة يكون صادقاً مع ناسه ومجتمعه ومع كلّ الناس ، المؤمن منهم والكافر ، المخالف والموافق ، القريب والبعيد ، لأنّ الصدق مربوط بمصداقية الإنسان لنفسه والأمانة تكشف عن قوّة شخصيّته وأهليّـته لتحمّل المسؤولية في حفظ المال الذي يودع عنده أو العمل الذي يوكل إليه أو المسؤولية التي يُعهد له بها ، وأيضاً أداء وحفظ التكاليف التي كلّفه بها رب العالمين ، قال تعالى ” إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولا ” فإذا صدق الإنسان مع ربّه ومع نفسه ومع مجتمعه تصير الأمانة ملكة لديه ، فلا تتحرّك نفسه إلاّ مع ما هو حق ، وتبتعد عن كلّ باطل من كذبٍ وغشٍ وغيرهما .
إذن الصدق والأمانة من أعظم الصفات الإنسانية ، وأرقى الفضائل الأخلاقية ، ومن الأسس لبناء المجتمع السعيد ؛ لارتباطهما بكل شؤون الحياة ، فهما قيمتان إنسانيتان لا يمكن لأحد انكارهما في أي حال من الأحوال ، وليس بعاقلٍ من ينكر الصدق والأمانة ويحبّذ الكذب والخيانة ، لأنّ الصدق والأمانة يُنبتان الثقة بين أفراد المجتمع في شتّى العلاقات ، وعلى جميع المستويات ، فيعيش المجتمع السلامة في علاقاته العائلية وتعاملاته المادية وغيرهما ، فيكون مجتمعاً متراصّاً قويّاً ، بخلاف نتائج الكذب والخيانة اللذين يشكلان معولاً هدّاماً في كل العلاقات الاجتماعية لانعدام الثقة بين أفراد هذا المجتمع ، قال أمير المؤمنين (ع) : الصادق على شرف منجاة وكرامة ، والكاذب على شفا مهواة ومهانة . وقال الإمام الصادق (ع) : إنّ الله عزّ وجل لم يبعث نبيّاً إلاّ بصدق الحديث وأداء الأمانة إلى البر والفاجر . إذن فالصدق والأمانة هما العنوانان الكبيران لكل الرسالات ، لأنّه بهما تنتظم العلاقة الحقة مع الله سبحانه ومع الإنسان الآخر ، فبهما تعمر الدنيا وتكتسب الحياة قوة وامتداداً ، وبهما ينفتح الناس على بعضهم البعض ، والأهم أنّهما المقياس الواضح على الإيمان ، قال الإمام الصادق (ع) : لا تغتروا بصلاتهم ولا بصيامهم ، فإنّ الرجل ربّما لهج بالصلاة والصيام حتى لو تركه استوحش ، ولكن اختبروهم عند صدق الحديث وأداء الأمانة . وعنه (ع) أنه قال لبعض أصحابه [فضيل بن يسار] : يا فضيل، إن الصادق أول من يصدّقه الله عزّ وجلّ يعلم أنه صادق ـ إن الله يطّلع عليك عندما تتحدث، فإذا تحدثت بالصدق فإن الله من فوق عرشه يقول لك: صدقت يا فلان ـ وتصدّقه نفسه تعلم أنه صادق . وقال (ع) : إنما سُمّي النبي إسماعيل صادق الوعد لأنه وعد رجلاً في مكان ـ من دون أن يحدد له وقتاً ـ فانتظره في ذلك المكان سنة، فسمّاه الله عزّ وجلّ “صادق الوعد .
فالله سبحانه أمر بالصدق في الحديث ، فلا يُغيّر في الحقائق والوقائع فينقلهما كما حصلت وكما سمع ورأى فقال سبحانه ” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ” يقول الإمام زين العابدين (ع) لشيعته : عليكم بأداء الأمانة،فوالذي بعث محمدا بالحق نبيا لو أن قاتل أبي الحسين بن علي عليهم السلام ائتمنني على السيف الذي قتله به لأديته إليه.
الأمانة فريضة عظيمة في الإسلام ، توجب أداء الحقوق والمحافظة عليها ، فيُعطي كل ذي حقٍّ حقّه ، فيؤدي حقّ الله سبحانه في العبادة ، ويحفظ جوارحه عن الحرام ويردّ الودائع إلى أهلها ، وإنْ حكم الناس فليحكمهم بالعدل ، فلا يتأثر بقرابة ولا بعاطفة ، فلا يظلم ولا يُحابي ، يقول أمير المؤمنين (ع) : وَاللَّهِ لَقَدْ رَأَيْتُ عَقِيلًا وَقَدْ أَمْلَقَ حَتَّى اسْتَمَاحَنِي مِنْ بُرِّكُمْ صَاعاً وَرَأَيْتُ صِبْيَانَهُ شُعْثَ الشُّعُورِ غُبْرَ الْأَلْوَانِ مِنْ فَقْرِهِمْ كَأَنَّمَا سُوِّدَتْ وُجُوهُهُمْ بِالْعِظْلِمِ وَعَاوَدَنِي مُؤَكِّداً وَكَرَّرَ عَلَيَّ الْقَوْلَ مُرَدِّداً فَأَصْغَيْتُ إِلَيْهِ سَمْعِي فَظَنَّ أَنِّي أَبِيعُهُ دِينِي وَأَتَّبِعُ قِيَادَهُ مُفَارِقاً طَرِيقَتِي فَأَحْمَيْتُ لَهُ حَدِيدَةً ثُمَّ أَدْنَيْتُهَا مِنْ جِسْمِهِ لِيَعْتَبِرَ بِهَا فَضَجَّ ضَجِيجَ ذِي دَنَفٍ مِنْ أَلَمِهَا وَكَادَ أَنْ يَحْتَرِقَ مِنْ مِيسَمِهَا فَقُلْتُ لَهُ ثَكِلَتْكَ الثَّوَاكِلُ يَا عَقِيلُ أَ تَئِنُّ مِنْ حَدِيدَةٍ أَحْمَاهَا إِنْسَانُهَا لِلَعِبِهِ وَتَجُرُّنِي إِلَى نَارٍ سَجَرَهَا جَبَّارُهَا لِغَضَبِهِ أَ تَئِنُّ مِنَ الْأَذَى وَلَا أَئِنُّ مِنْ لَظَى .
الأمانة خُلُق الأنبياء وأبرز صفاتهم ، قال تعالى على لسان نبيّه هود (ع) ” أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ ” وقال سبحانه في حقّ نبيّه يوسف (ع) ” وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي ۖ فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ ” ووصفت ابنة شعيب (ع) النبي موسى (ع) ” قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ ” ، لذا فإنّ سيد البشرالنبي محمد (ص) عُرف – ومن أيام الجاهلية – بالصادق الأمين ، ومن أوّل أيام بعثته (ص) أكّد على حفظ الأمانة وأدائها إلى أصحابها ، وليس أدلّ على ذلك ما جاء في السيرة في جواب جعفر بن أبي طالب (ع) لملك الحبشة [النجاشي] عندما سأله عن دينه : أيها الملك ، كنا قوما أهل جاهلية ، نعبد الأصنام ، ونأكل الميتة ، ونأتي الفواحش ، ونقطع الأرحام ، ونسيء الجوار ، ويأكل القوي منا الضعيف ، فكنا على ذلك ، حتى بعث الله إلينا رسولا منا ، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه ، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده ، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان وأمرنا بصدق الحديث ، وأداء الأمانة ، وصلة الرحم ، وحسن الجوار .
إذا التزم الناس الأمانة ومارسوها بحق حينها ينتشر الخير وتعمّ المحبة ، والله سبحانه يمدحهم ” وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ ” فيعيشون الدنيا بصفاء وسعادة ، وفي الآخرة يفوزون برضا الله سبحانه وبجنّة عرضها السموات والأرض أعدّت للمتّقين ، أمّا الخونة فدنياهم خراب وآخرتهم خسران مبين ، قال تعالى “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ ” لأنّ خيانة الأمانة غدر ونفاق ، عن رسول الله (ص) : آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلاثٌ إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ .
أما الآيات التي تتحدّث عن الصدق والصادقين فكثيرة ، منها قوله تعالى ” وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ ۙ أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33) لَهُم مَّا يَشَاءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ ۚ ذَٰلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ ” وقال تعالى ” هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ” ، وأما الروايات عن أهل بيت النبوة (ع) في الصدق أيضاً كثيرة ؛ قال رسول الله (ص) : زينة الحديث الصدق . وقال أمير المؤمنين (ع) : الزموا الصدق فإنّه منجاة . وعن الإمام الصادق (ع) : من صدق لسانه زكي عمله .
وأما الأمانة ففي القرآن والروايات بما هو كثير ، قال تعالى ” وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ ” وقال أيضاً ” إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ ۚ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا ” وقال سبحانه ” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ ” قال رسول الله (ص) : لا إيمان لمن لا أمانة له . وعن أمير المؤمنين (ع) : رأس الإسلام الأمانة ، ورأس النفاق الخيانة . وقال الإمام الصادق (ع) لأحد أصحابه : انظر ما بلغ به علي (ع) عند رسول الله (ص) فالزمه، فإن عليا (ع) إنما بلغ ما بلغ به عند رسول الله (ص) بصدق الحديث وأداء الأمانة.
فبصدق الحديث وأداء الأمانة يصل الإنسان إلى المقامات السامية . قال رسول الله (ص) : لا تزال أمتي بخير ما تحابوا وتهادوا وأدوا الأمانة واجتنبوا الحرام واقروا الضيف وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإذا لم يفعلوا ذلك ابتلوا بالقحط والسنين .
إننا نطالب بعض الفرقاء السياسيين في لبنان بعدم الوقوف أمام عجلة العمل الحكومي للوصول به لمرحلة تليق بالعمل العسكري للجيش اللبناني في حماية لبنان ، ونعتبر أنّ من يتحمّل قصور العمل الحومي عن الوصول إلى تحقيق الحد الأدنى من واجباته هم من يرفضون التواصل الطبيعي بين لبنان وسوريا .
ونؤكّد على ضرورة الالتفاف حول الجيش اللبناني الذي بتكامل دوره مع المقاومة حقق ما عجز عنه التحالف الدولي في مواجهة العصابات التكفيرية، ونتمنى أن تسعى كل الفرق الساسية لتأمين الدعم المعنوي والتسليحي للجيش من أي جهة أتى وبالأخص الأخذ بجدية العرض الإيراني .
ونتساءل عن تلك القيود والشروط التي يفرضها البعض على الجيش في مرحلة التكامل الضروري المتجلي بالقاعدة الذهبية التي حرّرت لبنان من الإرهاب الصهيوني والتكفيري ، ونعتبر أن لا استقرار للبنان إذا بقيت الجماعات التكفيرية خلف حدوده مع سوريا ، وليعلم الجميع أنّ هذه المقاومة التي منذ انطلاقتها طالما وقفت إلى جانب الجيش اللبناني في حماية لبنان ؛ فإنها لن تتركه في معركته الحالية ضد التكفيريين .
إننا نشيد بزيارة الوزراء لسوريا بصفتهم الرسمية وليس الشخصية كما يروّج البعض الذي هو في واقعه منفصل عن الواقع السياسي الحقيقي في المنطقة وسط اعتراف دولي ببقاء النظام السوري وفشل المخطط الصهيو أمريكي في تحويل بوصلة سوريا إلى اتجاه مخالف يحرفه عن دعم القضية الفلسطينية عبر دعم المقاومة ، ونتمنّى على بعض التابعين لمشاريع تصب في غير مصلحة لبنان الكف عن الرهان على أحلام تتطلع إلى هزيمة محور الممانعة والمقاومة .
ونختم بإدانتنا للعمل الإرهابي في برشلونة ، الذي يستدعي الضغط على الدول الداعمة مادياً ومعنوياً وحتى خطابياً للجماعات التكفيرية التي هي إرهاب لا دين له وسيطال الجميع .
وأخر دعوانا أن صلّ اللهم على محمد وآله الطاهرين والحمد لله رب العالمين
تصوير:رامي أمين