لحظة تفكّ “دولاب” سيارة أو شاحنة، وتعيد تركيبه أو تركيب آخر، وتتمكن منهما، تشعر هذه المرأة الحديديّة بإحساس جميل، وتعمل بسعادة لا متناهية. فالدولاب كرامتها، تقول منى خباز، وحده ساعدها وصانها وقت الضيق، هي التي اقتحمت مهنة تصليح إطارات السيارات والشاحنات لتؤمّن بها أوَد أسرتها وتساعدها في الوصول إلى مستوى لائق من العيش الكريم.
تحدّت ثم نجحت
منى خباز إسم يعرفه كل من قصد منطقة الشمال. فعلى أوتوستراد البترون يقع محلها الخاص بتصليح الإطارات وإلى جانبه استراحتها التي يقصدها الناس لإلقاء التحيّة. هي لم تتوقع يوماً أن تخوض غمار العمل “الذكوري”، لكنها لم تخجل من تصليح وتغيير دواليب السيارات والشاحنات، ولم يحرجها لباسها الملوّث بالزيت والشحوم في تعاملها مع الناس. كلمتها صادقة والتعامل معها يُبنى عليه، وقد ربّت طفليها من دون سند رجل أو مُعاونة مؤسّسة.
عندما تُقبل إليها تستقبلك بابتسامة رغم جراحها الخفيّة. وبالحديث معها تكتشف امرأة متعالية عن الألم ومفعمة بالأمل. وفي مستهل دردشتها مع “المدن” تردّد منى هذه العبارة: “الدولاب الأسود بيّض حياتي، وهو سرّي ومصدر رزقي واستمراريتي في العيش بكرامة”، تقولها بفرح وامتنان. هي التي تعرف تماماً استهجان الناس في البداية لما قامت به، ولها حكايتها الخاصة التي خلّفت وراءها كثيراً من المعاناة. “بدأت يوم تركني زوجي الذي جرحني ولا أزال أدفع فاتورة هذا الجرح”. عادت إلى بيت ذويها مع طفلين صغيرين من دون مأوى ولا مال، فاضطرّت إلى العمل مستندة إلى خبرة اكتسبتها من بيع الخضار سابقاً ساعدتها في عمل توزيع البن على كل مناطق الشمال بعدما اعتزل قسم من الرجال هذه المهنة بسبب الظروف الأمنية في تلك الفترة. تخبر: “مهمتي يومها كانت شاقة جداً، لكنني أختزلها بالمكسب المادي والمعنوي الكبيرين وبثقة الشركة التي عملت فيها لبعض الوقت”. عملها المرهق وذكاؤها في إدارة الأموال ساعداها في ادخار مبلغ من المال قرّرت استثماره في تأسيس مصلحة خاصة بها. فكان قرارها الصائب في شراء محل لتصليح الدواليب ومعدّات خاصة بهذه المهنة التي سيتسلم إدارتها رجل تبيّن في ما بعد صعوبة التفاهم معه لعناده، كما توضّح خبار.
وكانت البداية مع الورقة والقلم حيث كانت تسجّل كل شاردة وواردة تتعلّق بفك الدولاب، تلحيمه وتركيبه بقياساته المتنوّعة. وبعد دورة تدريبية لم تتعدَ الثلاثة أشهر استطاعت “المعلّم” منى استلام زمام مصلحتها وحدها. “الرجال رحّبوا بدخولي معترك مهنة معروفة بذكوريتها منذ أجيال. أما النساء فلم يرغبن بها لي والسبب يعود إلى إعجاب رجالهن بي كامرأة عاملة في حقل صعب وأم تربّي طفلين بمفردها”.
مرارة ذكّرتها بأنوثتها
عاهدت منى نفسها تأمين حياة كريمة لولديها. لكن، لم تكن تدري كم ستدفع ثمنها غالياً. ما الذي حصل مع هذه المرأة التي ضحّت كثيراً لتحقيق ذاتها وعائلتها؟ تقول إن نمط عملها وطبيعته أثرا سلباً على نفسيّة ولديها، “فلباسي الملطّخ بالزيوت السوداء وعدم اكتراثي بشكلي الخارجي جعلا رفاق ابني يسخرون منه في المدرسة. فكان يطلب مني أن أنزله من السيارة ليسير وحده في الشارع متجنباً الإقتراب مني”. ولما استشعرت بالخطر سألته ما الذي يحدث؟ أجاب بمرارة وهو يبكي: “أمّي، رفاقي يسخرون مني ويقولون إنك امرأة قبيحة ووسخة”. بهذه العبارات التي اخترقت قلبها كالسكين قرّرت منى أن تقلب حياتها من جديد. عادت إلى المرأة الكامنة في داخلها وبدأت تتبرّج وتختار أفضل الملابس عندما تكون برفقة أولادها، وتركت زّي العمل لأوقات العمل. هكذا، عملت هذه المرأة الستينيّة لأكثر من 34 سنة مع إطارات السيارات والشاحنات، تفكها، تلحم المثقوب منها تبلّه بالماء لتتأكد من عدم تسرب الهواء منه، ثم إلى السيارة للعمل رافضة مساعدة أحد. والطريف، مع هذه القوة والعصاميّة، أنها درّبت أكثر من 15 شاباً على العمل، باتوا اليوم يمتهنون عمل تصليح الدواليب في مناطق مختلفة.
وما لم تتوقغه هذه المرأة المناضلة أنها قبل فترة تعرّضت لوعكة صحيّة أجبرتها على إقفال المحل وملازمة المنزل. تقول: “علّمت أولادي العمل وإن تقاعدت فهم فخورون بما وصلت إليه”. تضيف: “منطقة شمال لبنان تعرفني جيداً، وأنا سعيدة بزبائني وفخورة بطلابي الذين باتوا اصحاب مصلحة”.
المصدر: للكاتبة نيكول طعمة/ المدن