يحمل بين يديه ملامح ولده، علها تهبط من الصورة وتمسد على كفيه المتعبتين. الوالد الذي يكفكف دمع قلبه، ينتظر المطر حتى تهمي دموعه وتمتزج معه، فلا يلحظ أحد غير حزنه الباعث للغيث.
يذهب محمد في نعيه إلى دار فاطمة، كأن يمتد دمه إلى ضلعها، فيطيّبه، هكذا يعرف المواساة، وهكذا نبت حبها في قلبه حتى زهد بدنياه. تقدمت مشهدية الباب الذي خلفه فاطمة إلى باله طوال حياته، فراح يبذل من عرقه ودمه ليردّ إلى نبي الله محمد (ص) وديعته مأخوذاً بثأرها.
تتقدم الوالدة سير النساء، تسبقهن بخطواتها وبجرحها المفتوح مثل جراح أبي عبد الله. تلك التي ظلت في العراء ليالٍ ليفتح الله على يديه ثقب نور في ظلمة التاريخ. تمشي الوالدة ويتقدمها عزها، ويتقدمها نداؤها، ويتقدمها ولاؤها، “لبيك يا زينب، لبيك يا زينب”. هكذا ترجع إلى القرية الصغيرة رياح كربلاء، في ما تمشي وديعة أبو الفضل العباس مسبيّة، فأبت نفس والدة الشهيد إلا أن تجذر بصراخها عهد الحسين (ع)، “هيهات منا الذلة”.
الشهيد السعيد. هكذا تخبر البشارة على وجهه في الصندوق الزجاجي. حيث يذهب الجسد إلى رقاده الأبدي، وتظل فراشة روحه تبعث بالأنس. شهيد كربلاء العصر، شهيد الخيارات الصعبة، شهيد اليقين الخالص، “يا أبتي، أولسنا على حق؟ إذا لا نبالي، أوقعنا على الموت، أم وقع الموت علينا”.
كان يوم عرسه الأبيض، حين دخل القرية على صوت التكبير ونداءات الحسين وأجراس الكنيسة. ها هي تقرع ويتخللها الزغاريد. هاك ورد أرضه الذي أينع ينثر على جثمانه. تمشي الجنازة وتلحقها الرايات، راية خلف راية، تلحق العلم الوحيد، الشهيد محمد تامر. بوصلة الطريق التي دلنا بها إلى الله، كان هو من يقود جنازته لا نحن. كنا خلفه، وما أصغرنا أمام شموخ هامته المشرقة كشمس قريبة.
لم ينتظر كثيراً، حين أرسل إلى أمه الوصية، بأن يدفن في بنهران، تبع كلامه كلحن نايه الذي لحق شعوره. أخبرها حكايته الأخيرة، أغمض عينيه ليفتحهما في قلب البصيرة. “أما بعد، فإنه من لحق بي منكم استشهد، ومن تخلف عني لم يبلغ الفتح”.
غفران مصطفى