الكتابة هي الشطط الذي يحملنا إلى تحدّي الورقة البيضاء، وهي تحدق بجسارة مفرطة في وجه حبرنا، صباحاً ومساء.. وأنا امرأة يستفزني هذا التحدي السافر ولا أنكر بأنني كاتبة مسالمة في الحياة أخشى العنف وأهرب منه، إلا أنني أفكر في كيفية اغتيال بياض الورق وأسلحتي كلها تيار متدفق من حبر الذاكرة. إنها الكتابة التي تهز الكيان، وتحرك جمود اللحظة الصلبة اليابسة على جدران الذاكرة لا تريد أن تتزحزح من مكانها، أنهال عليها كلما رأيت الأوراق على سطح مكتبي، أفتِّتُ الأشياء إلى حروف فإذا بالأبجدية تمشي مثل نملات عاملات على السطور لا يهم إذا عادت بغنيمة أم لا، إلا أنها تبحث عن مخزون لشتاء قارس، هي الحروف الصغيرة، التي أصنع منها دفء الحياة لروحي ولأرواح الآخرين.
والكتابة أن تتحدى الموهبة بالمثابرة ، فتلك الغادرة (الموهبة) تختبئ كثيراً حين تكون في حاجتها، فكيف أدعها تنصرف عني، وتنقطع بمزاجيتها الحادة المؤرقة، دون أن أستنزفها حتى آخر قطرة إبداع؟ الموهبة كانت البذرة التي شكلت الانطلاقة ومازالت هي البداية والمفتتح لكل نص، تتجلى في جملة قصيرة أحياناً أو عنوان مستفز لأباشر المشوار وحدي مع صبري ومثابرتي، إذ لا يمكن الركون باستمرار لمزاجنا الذي ينحرف مئة وثمانين درجة بين لحظة وأخرى.
الرواية وحدها علمتني الصبر، علمتني كيف أروِّض الموهبة على الانتظار معي قليلاً ريثما نأتي أنا وهي بجديد يستحق القراءة. أكتب دون علامات ترقيم، أكتب بأخطاء إملائية غير مقصودة، لأن المفردة الصحيحة وما قصدته عالقاً في ذاكرتي، ولا وقت لدي للتوقف، أكتب تفاصيل أعلم أنني سأشطبها بعد قليل أو في وقت لاحق، الأهم أن القلم ينساب، والنملات دؤوبة تبحث عن الجدوى من السير طويلاً في صفوف متراصة، كل الأشياء التي أكتبها حتى لو لم تعن أحدًا غيري إلا أنها تمنحني أحساساً أقوى بالحياة، وإنني أمارس الحياة بطريقة أخرى غير التي فرضت عليَّ في الواقع، أكتب عن الأحداث كما كان يجب عليها أن تقع، وتلك المشاعر التي لم يتسنَّ لي الاحتفاظ بها لوقت طويل، أقتص منها ـ كتابة – أثبتها بالحروف وأصنع منها وعياً جديداً أنتبه إليه أثناء الكتابة، أتذوق من جديد هذه المشاعر وكأني أمسك بلحظة هاربة فتصبح على السطر زمناً حبرياً ساكناً ولحظة محكوماً عليها بالمؤبد، وكما أردتها أن تكون، لأنني أكتب حولها ولا أكتبها هي فقط.
مع الكتابة التي علمتني كيف أتحدي مخاوفي الكبيرة، كيف أصبح فوقها تماماً وأتجاوزها، يصبح فعل الكتابة أكثر جرأة وأكثر صدقاً، وملزماً للتحدي من جديد فهو الذي يتغلب على جبن الخوف من صفحة بيضاء تتحدانا، وفي نهاية الأمر نعثر على أشياء مختلفة كانت مختبئة داخلنا بعد صفحات كثيرة قمنا بكتابتها، ولم نكن نجرؤ على قولها شفاهة، لهذا تعلمت أن ما نقوله ونتحدث به لن نكتبه آبداً.
هذا هو سرّ البياض المخيف أنه يواجه صمتنا الرهيب ونحن نرشق حبرنا عليه.