غفران مصطفى
الخروج:
كيف يصير البيت عتيقاً؟ وكيف تخرج منه الرائحة؟ كيف يظلّ الفلسطينيون يسمعون الصدى؟ كيف يبقى في البلاد عشب وليمون وبحر؟ كيف يصير الصوت من فرط الذاكرة؟
*
الذاكرة:
المجد للذاكرة. يقول السّائرون على الأسفلت الطويل، حين دخلوا هالة الدهشة، واستقلّتهم الطرقات إلى العدم. بعدما امتلأت الحقائب وتقطّعات الجلد على الكفوف، ولم يعد هناك مكان للبيوت وهوى الشوارع.. تبتعد البلاد، ويرتعش ناس الصور من فرط الدموع التي ذرفتها الأم الكبيرة. حين بقيت تقلّب الوجه تلو الوجه، والبيت تلو البيت، والشارع تلو الشارع، من القدس ويافا ودير الهوى ودير ياسين وعين غزال وميرون، ولم تعرف عن أيّ وجهة تبحث، أو أيّ ألم تردّه. ظلّت تقلّب لساعات ممتدة على طول 66 عاماً. ولم تملّ. تفكر كم أن البلاد صارت بعيدة، وكم أنها لا تزال تحترق، كجرح منسيّ متورّم لم يندمل. تتذكر الأصوات التي رافقتها حين الخروج حتى الوصول إلى اللا أين واللا متى.
*
المكان:
شيء ثابت ظلّ في فلسطين بعد النكبة: وحدة المكان. ذاك الذي خرج منه الناس باتجاه تشعّباته. وحده الفلسطيني يعرف ماهيّة الأماكن الجديدة من دون أن تتاح له المقارنة. لم يخرج مغترباً ولا سائحاً، إنما استطاع تكوين بنية إنسانيّة كاملة خارج المكان الأول القديم، الذي ينتمي إليه بالأصل والفكرة. استطاع ابتداع أسماء لأماكنه الجديدة التي خرج إليها، غير تلك المتعارفة. يظلّ الفلسطيني يحاول أين ما حلّ أن يسرّح خيالات الأجيال اللاحقة من النسيان. فيصنع من انتماءاته الجديدة احتمالات كثيرة لفلسطين، ولا يتوقف عن السعي نحو تجسير المسافة، في الزمان والمكان، بين حياته اليوم وبين أهله الذين حفّتهم النكبة. فيخلق قصصاً جديدة يكبر فيها الحب ويصير وشماً في القلب على شكل خارطة من البحر إلى النهر. المكان بالنسبة للفلسطيني هو حالة، يعيشها على نحو تجريبي، فيوسّع تطلّعه إلى مسار العيش ككلّ، وتصير المصائر المتبدّلة التي يعيشها الناس كجزء بسيط من الكلّ الذي خرج منه.. أي فلسطين.
*
الزمان:
يمدد الحنين وقت الفلسطيني ويسترخي على جسده. يصير معه كبيت خشبيّ مسترخ تحت الشمس، يتعتّق على مهل وتتكوّر أطرافه. يخرج في ساعات النهار الأولى إلى “الفلا”، يلقي بجسده على الأرض، ويمرر أصابعه بالعشب، فيتسلل الهواء إلى وجهه، إلى أن يسرح الوقت في الخفّة. يعيش الفلسطيني في سباق غير متكافئ مع الزمن، فلا يقيس عيشه بالوقت، إنما بالمساحة المتاحة له للحياة. بعدما يتحول الوقت خارج المكان الطبيعي إلى انتظار. انتظار تمدده الألف المحاطة بالزمان، فيمحيها لتصير “الزمن”، كأن يقلّص بذلك الوقت، على سبيل التجربة. وكلما ابتعد الزمان عن لحظة النكبة، كلما توغل ناسها في التجريب أكثر. يلج الوقت بعد ذلك في العلاقات وألوان الصور الجديدة وفي الكتابة والرسم والأناشيد، وليالي السهر الطويلة.
*
الشهداء:
يتكوّر محمد الدرّة خلف والده، يخبّئ وجهه، يتربّعان على الأرض ويحشران جسدهما خلف البرميل الأزرق. يقترب القاتل ويصير مشهدهما مشرّعاً لسلاحه. يهمد جسد محمد ويلتوي رأس الوالد على كتفه من شدّة العجز. قُتل محمد الدرّة في حضن والده، ولم يسمعه أحد. وكذا يموت الفلسطينيون حفاة على الأرصفة. لا شيء يردّ عنهم هول المجزرة. لا شيء. هؤلاء هم الشهداء، “همْ أصدقاء البحر/ هم أصدقاءُ النهرْ/ هم أعينُ الزيتونْ/ هم زهرةُ الحنّونْ/ هم خُضرةُ الأشجارْ/ وطفولةُ الأنهارْ/ هم قِبْلةُ/ الشعراءْ/ وذخيرةُ الفقراءْ/ هم شارعٌ في الفجرْ/ هم ضحكةٌ في الصخرْ/ ووضوحُ هذا السّرْ” (إبراهيم نصرالله – “دمهم”).
*
الحب:
لم يرخ ثقل النكبة في يوميات الفلسطينيين مثل ما فعل الحب. يلملم الغرباء عن الشوارع، ويبني بينهم لُحمة الانصهار العميق. يترك بعضاً منه خلف الأسلاك ويفكك الباقي عن جسد الحبيب. يُمسك بأيدي العاشقين إلى الحنين، ويصنع من كل ما بقي في مدن فلسطين حباً آخر أكبر للتعويض. كأن تفتح تلك البلاد ذراعيها إلى القصص البعيدة، وتجسّد الوصل كلحن ناي لراعٍ عند قمة الجبل المطلّة على بحر عكّا. يؤلف نجماً يمسّد على أعين الساهرين. ويقول لفلسطين: “عيونك شوكة في القلب/ توجعني ..وأعبدها/ وأحميها من الريح/ وأغمدها وراء الليل والأوجاع.. أغمدها/ فيشعل جرحها ضوء المصابيح/ ويجعل حاضري غدها/ أعزّ عليّ من روحي/ وأنسى، بعد حين، في لقاء العين بالعين/ بأنّا مرة كنّا وراء، الباب، إثنين!” (محمود درويش – عاشق من فلسطين).