الرئيسية / ثقافة عامة / حزب الله وبنية الخطاب الديني

حزب الله وبنية الخطاب الديني

غفران مصطفى

كانت تُعرف مساجد الضاحية الجنوبية لبيروت في الثمانينات على أنها دور عبادة مؤسِسة لبنيات التفكير الجمعي، من خلال خطب أئمة المساجد الذين أسسوا لهوية إسلامية – شيعية هناك، تمتهن صناعة نخب ثقافية وعسكرية لمواجهة العدو الصهيوني أولاً، ولنشر الفكر الدعوي الذي يدعو للالتزام الديني والأخلاقي. وبتفكيك لأدوات هذه الخطابات، سنركز على أداتين أساسيتين، مهّدتا للوقوع في إشكاليات الخطاب الراهن، الذي لا يزال في غالبيته يعيش في كنف الماضي، ولم يستطع بعد الخروج منه، وهي لا تطال المضمون بقدر ما تطال السياق والأسلوب. الأداة الأولى هي: الحسم. وقبل التفصيل في هذه النقطة، يمكننا القول إن ما مهد لامتداد صيغة الحسم في حل القضايا الاجتماعية، هو التفكير الأمني والعسكري الذي بدأ يتبلور مع بدايات تأسيس حزب الله في لبنان. بالرغم من أن الحزب فصل بين الدوائر الأمنية والثقافية والدينية لاحقاً، (والتي تطورت مهام كل واحدة منها مع الوقت)، إلا أن العقل الأمني – العسكري كان هو المدبر الأساسي في نشأة هذا الحزب الذي وُجد لقتال الإسرائيليين. وكانت المنابر الدينية جزءاً لا يتجزأ من عملية الدعوة والتعبئة.

انسحب أسلوب الخلاصات الحاسمة لدى كثيرين من رجال الدين المنتمين لحزب الله إلى القضايا الاجتماعية، والتي يصعب فيها تحديد الصواب أو الخطأ مباشرة من دون استدراك الأسباب وكل العوامل المحيطة فيها. من هنا كان ولا يزال بعض رجال الدين يقدمون الخلاصات والأحكام المباشرة في حق غير الملتزمين ببعض المفاصل الدينية، في مقابل سؤال حتمي: جنة أو نار؟ في ظل غياب شبه كلي لنقاش الأسباب والظروف والاكتفاء بالتعميم. في الماضي كان دافع ذلك واضحاً، البيئة المتدينة كانت تخاطب بعضها البعض في أماكن محددة، و”الكل فاهم على بعضه”. بعكس ما يحدث اليوم، من تطور وتعدد منابر الخطاب وتوسع الجمهور وتنوعه وازدياد وعيه وثقافته.

أما الأداة الثانية هي: التسليم ببداهة الخلاصات في جمهور “مسلّم به”. ففي هذه النقطة تتعدد أوجه الخطاب، بين جمهور متدين بالعموم وجمهور حزب الله المتدين. والتفرقة ليست للقول إن لحزب الله دين خاص به، إنما بهدف التفرقة في أساليب المضامين الخطابية الموجهة للجمهورين. فالتسليم في الخلاصات الموجهة للجمهور الأول هو بصفته متديناً، يعرف الحلال والحرام، أما للجمهور الثاني فهو الجمهور الحزبي المتدين، الذي تتداخل الأدوات المفتاحية في خطابه في مسالك أكثر تشعباً من الجمهور الأول، كالمرجعية والسياسة والثقافة والتعبئة والجهاد.

غير أن البنود الحزبية الثابتة التي خطها حزب الله عند قيامه لم تعد منسحبة بحذافيرها إلى بنيته الشعبية والاجتماعية، التي لا بنود ثابتة فيها، لأنه لم يعد يتشرب كل ما يُلقى على مسامعه من دون نقد أو نقاش. جمهور حزب الله اليوم ليس هو نفسه جمهور حزب الله في الماضي. هو جمهور تعددي، فيه المتدين وغير المتدين، فيه المتعلم وغير المتعلم، فيه الجهادي والداعي والمسيس وغير المسيس والمؤيد فقط والمنظم. هذا الجمهور لم يعد يتلقى الخطاب الديني، الذي يعد أساسياً لفهم كل ما عداه في الحزب، بالطريقة نفسها في ما بينهم. أي لم يعد جمهوراً واحداً “مسلماً به”. وملاحظة هذه التفاصيل صارت أسهل وأوضح، خصوصاً في السنوات الأخيرة الماضية، ودخول حزب الله إلى سوريا، وما استدعى ذلك من تكثيف لظهور قيادات الحزب ورجال الدين والحديث إلى جانب الملف العسكري عن قضايا دينية واجتماعية، والتي لا يمكن فصلها عما ينجزه الحزب في الميدان، المبني في الأصل على أسس عقائدية. ومع الوقت، صار الخطاب الديني (خصوصاً في عاشوراء) مفتاحاً لغير المنتمين لحزب الله لفهم سياسة الحزب وانجازاته. وأي خلل في طريقة إيصال الأخير صار ينسحب مباشرة إلى خلل في فهم سياسته.

من هنا، تأتي ضرورة التجديد في بنية الخطاب الديني لحزب الله، أو بطريقة أخرى، محاولة جدية لفهم تغيرات الجمهور الفكرية وتلقف النقد والأخذ بعين الاعتبار النسبة العالية لمواكبة الجماهير الأخرى لخطابات الحزب، حتى لا تعود وتلتبس المفاهيم الدينية على أحد. وهذا الأمر لا يلغي بالطبع وجود رجال دين وشباب منتمين للحزب قد بدأوا في تجديد خطاباتهم وأساليبهم وإعادة بلورة مضامينه في طرق تتماشى مع التغيرات الفكرية لهذه البيئة. كون الحزب لم يعد مسؤولاً اليوم عن تغذية الأرض التي حررها بدماء شهدائه فحسب، إنما الحفاظ على هذا الإرث الحضاري الذي لا ينضب، والذي يحتاج كي يستمر إلى خطاب تجديدي يوازي حركية الأول.

شاهد أيضاً

ندعوا أهل الخير للمساهمة في إفطار مئة صائم يومياً

بمناسبة حلول شهر رمضان المبارك، يطلق “مركز مصان” لذوي الإحتياجات الخاصّة مشروعه الإنسانيّ “مائدة الرّحمٰن” …

Open chat
أهلاً وسهلاً بكم