الرئيسية / ثقافة عامة / حسام .. فارسٌ بمئة رجل

حسام .. فارسٌ بمئة رجل

نور بزيع
«مركز .. وهجوم» تلك كانت اللعبة الأحبّ. بندقيةٌ خشبية مثبتة بمسامير صدئة وبقايا رصاصات جُمعت من أطراف البلدة شكلت عتاد الهجوم. ومركزٌ استُحدث بمهارة تكاد تجعله خفيا كان الهدف. ليس الأمر بالمستغرب، فطفل يولد في زبقين الجنوبية في ١٩٨٢عام اجتاحت إسرائيل لبنان، لا يمكن إلا أن يُجبل على التمرد والمقاومة.
وقع الاختيار على «حسام» ليكون اسما لذلك الصبي. لم يكن ليليق الاسم المميز إلا بصبي بهيّ الوجه ومحبوبا بغرابة من عائلته رغم أنه لم يكن الحفيد الأول للعائلة. هو «فرخ النّبي» كما تسميه والدته وهي التي لطالما استيقظت كل فجر على صوته وهو يقرأ القرآن حتى صارت شريكته في ذلك. تبرر ذلك الاستثناء معالم واضحة رسمت شخصية حسام. فالأخلاق العالية التي تحلّى بها، والتزامه الديني في سن مبكرة، والوعي الظاهر في كلامه مع الآخرين كما أفراد أسرته جعلت منه قائدًا لرفاقه وإخوته وفرضت لا إراديا عليهم احترامه دونما جهد مقصود منه والأخذ برأيه في شتى الأمور.
النقاشات كثرت بين حسام ووالده وهو لم يتجاوز العاشرة بعد. والشهيد يبدي إصرارا للإنخراط في المقاومة ولو بأبسط الإمكانات قائلا : «لا بد من ذلك».
كان لحسام من العمر عشر سنوات فقط عندما بدأ بمرافقة المقاومين إذ كان عمل لمقاومة آنذاك محاطًا بكثير من الكتمان. سأله والده عند عودته ليلا إلى المنزل : «أين كنت ؟» أجاب حسام أنه كان عند صديقه حسين في الدكانة ليرد الوالد فاهما : «شو! هالدكانة بتفتح ليلا نهارا !».
ومنذ ذلك الوقت، لم يتوقف الشهيد عن تأهيل نفسه على غير صعيد للمشاركة الفعلية بالعمليات. فخضع لدورات تدريبية مكنته المشاركة في عمليات نوعية عدة في بلاط ، البياضة ، شمع ، وادي حامول… في الرصد أو الإسناد أو التنفيذ.
شارك حسام في هذه العمليات وهو لا يزال ضمن صفوف التعبئة.
تأخر ذات نهار في العودة إلى المنزل، وتزامن ذلك مع عملية تقوم بها المقاومة ضد الإسرائيليين. الوالدة تابعت أخبار العملية من جهاز لاسلكي يحمله شاب يقف بمحاذاة المنزل ؛ «انسحب الشباب وغادروا» لكن حسام لما يأت بعد. خرجت فورا لتسأل عن ابنها : «بدي خبر طمنّي عنو» قالت لأحد الإخوة. وبعد اتصالات عدة ، أجابها أن حسام بخير لكن لم يتسنّ له الانسحاب بعد فالعدو ما زال مراقبا.
هذه الإندفاعة العالية لم تلغ متابعة الشهيد لدراسته ، إذ لم يتهرب يوما من المدرسة على عكس زملائه الذين تفننوا في إزعاج المعلمين ورمي الحقائب من النوافذ كي يستطيعوا الهرب من الصفوف. وحين نجح في شهادة الثانوية العامة قال لأمه :«مبروك ، نجحتي يا أم علي ».

استمر هارون في تطوير قدراته حتى بات وضع خطط للعمليات يستهويه إلى حد كبير ، وهذا ما أظهر فيه فطنة لا مثيل لها. فخلال التحضير لعملية “خلة وردة” مع الشهيدين القائدين عماد مغنية وخالد بزي ، والتي كان أحد المشاركين فيها، مكنه ذكاءه الحاد من تحديد الآلية التي سيتواجد فيها الجنود الاسرائيليون المستهدفون مع تحديد أسمائهم أيضا.
وقع عدوان “تموز ٢٠٠٦” والشهيد ورفاقه متأهبون ينتظرون التحاما مباشرا مع العدو . في الحرب أظهر “هارون” بسالة متميزة ، إذ ينقل أحد رفاقه أنه طوال أيام الحرب تولى بنفسه تأمين يحتاجه المقاومون يوميا من مؤن وعتاد رغم الخطر الموجود دائما. في ٥ آب ٢٠٠٦ ، استشهد محمد شقيق الشهيد حسام ، لكن ذلك لم يثنه عن مواصلة المقاومة. ففي الليلة الأخيرة للحرب، كان حسام مقتنعا بأننا نحن أصحاب الطلقة الأخيرة. وفيما كان يرمي آخر الصواريخ الموجهة ضد العدو، كشفته ورفاقه طائرة تجسس تعقبتهم فحاولوا دخول مغارة للإحتماء بداخلها لكن العدو رمى قذيفة على باب المغارة. وبينما همّ الشهيد بالخروج ، أصابته شظية في كفّه اليمنى وأخرى في رأسه.
بعد انتهاء الحرب ، وفور خروجه من غرفة العمليات في المستشفى نظر إلى يده المغطاة بالضماد . قال إنها مواساة لأبي الفضل العباس. وسأل أمه عن أمرين فقط ؛ الأول كان ما إذا فقد كفه بالكامل فاحتارت بماذا ستجيبه لكنه سرعان ما أردف قائلا : «لا بأس ، المهم أن تبقى منها السبابة والإبهام لأظل قادرا على الضغط على الزناد» ، وهذا ما حصل فعلا. السؤال الثاني كان عن امرأة مسنّة دخل منزلها خلال الحرب وأخذ بعض الطعام للمجاهدين فأراد طلب المسامحة منها بعد تعافيه من إصابته.
هذه الأمانة وهذا الإخلاص في الأداء كانا يرافقان الشهيد في حياته وخصوصا عندما يتعلق الأمر بعمله. فهو الحريص والمتشدد في تفاصيل المهام الدقيقة واحترام المواعيد والحفاظ على تجهيزات العمل. وهو العطوف على رفاقه ، فكان أيام الأعياد يطلب منهم الذهاب عائلاتهم فيما يقضيها هو عمله.
شخصية هارون الشُجاعة منعته من تسلم أي عمل مكتبي. فالشهيد لم يخف يوما من موجهة العدو. كان تجواله دائما في مكانه الأحب إلى قلبه ” الشريط الحدودي” وهو يحمل سلاحه مجاهرا به في وضح النهار. في إحدى المرات، وخلال تواجده قرب الشريط، قام أحد الجنود الصهاينة برمي حجارة على صورة للسيد حسن نصر الله في الطرف اللبناني. فما كان من الشهيد إلا أن لقم سلاحه ووجهه إلى الجندي الذي فرّ زاحفا نحو دشمته.
كان الشهيد على قناعة بأن العدو يجب أن يخاف لا أن يُردع فحسب. فوصلت شجاعته لحد أن وجه طائرة مسيّرة إلى الجانب المحتل وثبتها فوق رأس جندي إسرائيليّ . تسمّر الجندي في مكانه مدة طويلة مرتعبا غير قادر على التحرك أو الفرار أو إطلاق النار على الطائرة بل ورفع جهازه اللاسلكي إبلاغ قيادته. وحسام واقف يراقب ذلك الجندي الخائف.

ثم جاءت الحرب في سوريا لتكشف المزيد من قدرات هذا القائد بحقّ ، إذ كان من بين القياديين الذين ساهموا في وضع خطط لعدد من المعارك . فبصمات «الحاج هارون» واضحة في معركة حلب التي تشهد إبداعه ودقة بصيرته إضافة إلى عملية شبعا ٢٠١٥ التي أتت كرد فعل من حزب الله على استهداف إسرائيل لخمسة من المقاومين في القنيطرة.
إصرار حسام على نجاح العمل تمثل بقوة السر لديه. فالعدو ، سواء كان إسرائيليا أو تكفيريا ، لا يجب أن يمتلك فرص الحصول على معلومات عن المقاومة مهما كانت بسيطة. بعد مرور سنوات من زيارات القادة للشهيد ، كان يخبر والدته عنها :«في العام الماضي ، زارنا فلان » وهو أيضا لم يستخدم هاتفا خليويا حتى عام ٢٠١٤ رغم مواكبته الدقيقة للتقدم.
خلال معركة القلمون انقطع الإتصال بحسام وعندما حررت المقاومة “تلة موسى” أرسلت له والدته : هيدي تلة بيّك تحررت -اسم والد الشهيد هو موسى- ، طمنّي عنك. فرد عليها بكلمة “نعم” للإشارة إلى أنه بخير .
وبحسب والدته، فإن الرسالة الصوتية الوحيدة التي قام الشهيد بإرسالها عبر واتساب كانت في ليلة شهادته.
عشرون عاما بالتمام حُسبت للشهيد كمقاوم في حزب الله ، عمل فيها بما يفوق طاقته وسخر كل إمكاناته في خدمة هذه المسيرة.
في ١٨ آذار ٢٠١٧ ، ولمرة واحدة فقط كانت الأولى والأخيرة ، هدأ قلب حسام وختم حياته في المكان الأحب “جنوب لبنان” ، لكن روحه لم تهدأ وربما لن تسكن أبدا .
كل ما أنجزه الحاج هارون هو بمثابة ثأرلأخيه ورفاقه الذين سبقوه إلى الشهادة.
استشهد “قائد العرفانيين” ، كما وصفه رئيس للمجلس التنفيذي في حزب الله السيد هاشم صفي الدين ، لكن ما جهزه هذا القائد للعدو من مفاجآت سيكون مدويا في أية مواجهة قادمة . سيؤلمه كثيرا اسم “هارون”.

شاهد أيضاً

ندعوا أهل الخير للمساهمة في إفطار مئة صائم يومياً

بمناسبة حلول شهر رمضان المبارك، يطلق “مركز مصان” لذوي الإحتياجات الخاصّة مشروعه الإنسانيّ “مائدة الرّحمٰن” …

Open chat
أهلاً وسهلاً بكم