﴿ وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ * وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا ﴾
لقد جعل الإسلام للأمّ مقاماً مُقدّساً، وللأب المقام العظيم، يعجز الإنسان عن إدراك هذين المقامين، لذا قرن الله سبحانه الإحسان إليهما بعبادته، قال تعالى ” وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ” وذللك لأنّ الفضل بعد الله سبحانه على الإنسان هو للوالدين، قال تعالى ” أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ “، وكثيرة هي الآيات التي تتحدّث عن مكانة الوالدين، وكذلك الروايات الواردة عن أهل بيت النبوة (ع) . الإمام زين العابدين (ع) يُبيّن في رسالته حقوق الوالدين؛ فقد أوضح حقّ الأمّ وعلو مكانتها وعظيم عطائها، فيقول: فحق أمك: أن تعلم أنها حملتك، حيث لا يحمل أحد أحداً، وأطعمتك من ثمرة قلبها ما لا يطعم أحد أحداً.. وأنها وقتك بسمعها وبصرها، ويدها ورجلها وشعرها وبشرها، وجميع جوارحها، مستبشرة ، فرحة، محتملة لما فيه مكروهها، وألمها، وثقلها وغمها.. حتى دفعتها عنك يد القدرة، وأخرجتك إلى الأرض.. فرضيت أن تشبع وتجوع هي، وتكسوك وتعرى، وترويك وتظمأ، وتضحى وتنعمك ببؤسها، وتلذذك بالنوم بأرقها.. وكان بطنها لك وعاءً، وحجرها لك حواءً، وثديها لك سقاءً، ونفسها لك وقاءً، تباشر حر الدنيا وبردها لك، ودونك.. فتشكرها على قدر ذلك، ولا تقدر عليه إلا بعون الله وتوفيقه .
الأم نبع الحنان والعطف والأمان، تحمل طفلها تسعة أشهرٍ في بطنها، وتتحمّل الكثير من المتاعب والآلام، “حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا ” غذّته من دم فؤادها؛ صابرة فرحة، دون التفاتٍ إلى الآلام وما يصيبها، كلّ همّها أن يبقى حملها سالماً مُعافى، ويخرج من بطنها طفلاً سويّاً، لتستمر في حفظه ورعايته، فلا يهمّها أن تجوع هي وتعطش وتعرى؛ بل كلّ همّها أن يشبع طفلها ويرتوي ولا يعرى، كان جنيناً تحمله في بطنها؛ وهو الآن أصبح طفلاً تضمّه بحجرها، وتغذّيه لبن ثديها، فتجعل من نفسها ظلاً له من الشمس، وتحتضنه بدفء حجرها تقيه البرد، حبّاً به؛ لذا وجب شكرها بعد الله سبحانه؛ على عظيم ما قدّمت وضحّت، ولن يتمكّن أحدٌ من شكرها مهما سعى لذلك سبيلاً، ولأنّها الحنان والعطاء والعطف فهي ترضى بالقليل من مولودها، فلا يكفي أن نتّخذ يوماً واحداً في السّنة نسمّيه [عيد الأم] شرّعه الغرب، بل لابد أن نتفقّد أمهاتنا ونقدّم لهن الهدايا وجزيل الشكر صباح مساء، وهذا ما يربّينا عليه الشرع الإسلامي الأصيل، فالإسلام أعطى الأم مراتبَ عاليةً وأهميّةً كبيرة، فقرن الله سبحانه رضا الأمّ وطاعتها برضاه وطاعته سبحانه، وتوعّد العاق لوالديه بالعقاب الشديد في الدنيا والآخرة، فما من دين أو نظام أعطى الأمّ كما أعطتها الرسالة المحمّديّة الأصيلة، ويكفيها أن جعل حقّها أعظم من حق الأب؛ لما تتحمّله من مشاق الحمل، وألم الولادة، والإرضاع، والتربية، في السيرة: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِىّ (ص) فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَنْ أَحَقُّ النَّاسِ بِحُسْنِ صَحَابَتِى ؟ قَالَ : أُمُّكَ . قَال: ثُمَّ مَنْ ؟ قَالَ: ثُمَّ أُمُّكَ . قَالَ: ثُمَّ مَنْ ؟ قَالَ: ثُمَّ أُمُّكَ . قَالَ: ثُمَّ مَنْ ؟ قَالَ: ثُمَّ أَبُوكَ .ويروى أن رجلاً بالطواف كان حاملاً أمه يطوف بها، فسأل النبي (ص): هل أديتَ حقّها؟ قال (ص): لا ولا بزفرة واحدة .
إنّ الأم بتكوينها وطبيعتها الأنثويّة وما جُبلت عليه من الرّقّة والحنان والعطف؛ تُعطي عطفاً وحبّاً وحناناً أكثر مما يُعطيه الأب، نظراً لتكوينه الخاص الذي يمنعه من الاندفاع وراء عواطفه، فيتحكّم بمشاعره أكثر من الأم، فما يستهلكه الولد من عواطف الأم وحنانها أكثر مما يستهلكه من عطف الأب وحنانه، وقد يكون هذا هو السبب في تأكيد رسول الله (ص) على حقّ الأم ثلاث مرّات، وإن كانا قد يتساويان في الحب للولد . إنّ على الأم مسؤولية تربية الولد وتغذيته روحيّاً؛ لذا أكّد الإسلام على ضرورة تربية البنت تربيةً إسلاميةً، لأنّها هي التي ستعيش مع الولد وتربّيه تربيةً صحيحةً على حبّ الله والدين والوطن والعائلة، قال الشاعر:
الأم مدرسة إذا أعددتها أعددت شعباً طيّب الأعراقِ
فالأم تمثّل نواة العائلة، وعمادها، وهي المربّي الأول، فهي الحاضنة والمربّية والمُعلّمة، ولا تألو جهداً في تقديم أي خدمة تجاه أبنائها، مهما كلّفها الثمن من تضحية بكل ما تملك وتقدر عليه، لترى فلذة كبدها سعيداً مُعافى، وكثيرة القصص التي تحدّثت عمّا تتحمّله الأمهات من مصاعب وأعمال شاقّة؛ كي يوفّرن لأبنائهن حياة هانئة كريمة، حتى أنّ هذه التضحيات تراها في مملكة الحيوانات؛ حيث ترى الأم تعمل المستحيل في سبيل الحفاظ على أولادها، فتقاتل بشراسة لإنقاذ ذريّتها من أي خطر داهم . فالأم مع الأب هما سبب وجود البشر بعد الله سبحانه، لذا تعامل الإسلام مع الأبوين بكل الحب والاحترام، وأمر بالرفق بهما والإحسان إليهما وترك عقوقهما وعدم نهرهما، وجعلهما الأولى بالانفاق عليهما، قال تعالى ” قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ ” وقال تعالى ” وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ۖ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ” وقال تعالى ” فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَاتَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً ” فآيات الوصية بالوالدين كثيرة، وكذلك في سيرة النبي (ص) وأوامره وسيرة الأئمة (ع) وأوامرهم، لو تتبعناها لوجدنا الآلاف من الروايات تتحدّث عن حق الوالدين ووجوب برّهما، سُئل الإمام الحسين (ع): ما أفضل الأعمال؟ قال (ع): الصلاة لوقتها وبر الوالدين والجهاد في سبيل الله . وجاء شاب إلى رسول الله (ص) يطلب الإذن له بالجهاد وأنّ أمّه تمنعه، فيقول له رسول الله (ص): لأنس أمّك بك ساعة خير لك مما طلعت عليه الشمس .
وقد اعتبر القرآن عقوق الوالدين والخروج عن طاعتهما تجبّراً ومعصية، قال تعالى في ذكر يحيى بن زكريا “وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا “، ولا يقل حق الأب أهميةً عن حقّ الأم، لأنّ الأب هو الأصل والابن هو الفرع، وقد أمضى حياته واشتغل بقوّته بالكد والتعب والجد ليحافظ على أسرته، ويؤمن حياة هانئة لأولاده وأسرته، غير آبه للمخاطر والمشقّات والصّعاب، يقول الإمام زين العابدين (ع): وأمّا حقُّ أبيك، فأن تعلم أنّه أصلك، وأنّك لولاه لم تكن، فمهما رأيت في نفسك ممّا يُعجبك، فاعلم أنّ أباك أصل النعمة عليك فيه، فاحمد الله واشكره على قدر ذلك، ولا قوّة إلّا بالله . وقيل لرسول الله (ص): يا رسول الله، ما حقّ الوالد؟ قال (ص): أن تُطيعه ما عاش . فقيل: ما حقُّ الوالدة؟ فقال (ص): هيهات هيهات، لو أنّه عدد رمل عالج، وقطر المطر أيّام الدنيا، قام بين يديها، ما عدل ذلك يوم حملته في بطنها . وعن الإمام الرضا (ع): عليك بطاعة الأب وبرِّه، والتواضع والخضوع والإعظام والإكرام له، وخفض الصوت بحضرته، فإنّ الأب أصل الابن، والابن فرعه، ولولاه لم يكن بقدرة الله، ابذلوا لهم الأموال والجاه والنفس، وقد روي أنت ومالك لأبيك، فجعلت له النفس والمال تابعوهم في الدنيا أحسن المتابعة بالبرّ، وبعد الموت بالدعاء لهم والترحّم عليهم، فإنّه روي أنّ من برّ أباه في حياته ولم يدع له بعد وفاته سمّاه الله عاقًّا .
إنّ برّ الوالدين له آثار مهمّة في الدنيا ورضوانٌ من الله سبحانه في الآخرة، وقد أكّدت الروايات عن النبي (ص) وأهل بيته (ع) أنّ بر الوالدين يُطيل العمر ويخفّف سكرات الموت، عن النبي (ص): من سرّه أن يُمدّ له في عمره، ويُبسط رزقه، فليصل أبويه، وليصل ذا رحمه . وروى داود بن كثير الرقي، قال: سمعت أبا عبد الله الصادق عليه السلام يقول: “من أحبَّ أن يخفِّف الله عزّ وجلّ عنه سكرات الموت، فليكن لقرابته وصولا، وبوالديه بارّا، فإذا كان كذلك هوّن الله عليه سكرات الموت، ولم يُصبه في حياته فقرٌ أبدا . وعن أبي عبد الله (ع): برّوا آباءكم يبرّكم أبناؤكم، وعفّوا عن نساء الناس تعفّ نساؤكم . وفي السيرة: إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أتته أختٌ له من الرضاعة، فلمّا نظر إليها سرّ بها، وبسط ملحفته لها، فأجلسها عليها، ثمّ أقبل يحدّثها ويضحك في وجهها، ثمّ قامت فذهبت. وجاء أخوها، فلم يصنع به ما صنع بها، فقيل له: يا رسول الله، صنعت بأخته ما لم تصنع به وهو رجل، فقال: لأنّها كانت أبرّ بوالديها منه . وعن ابن عبّاس قال: قال رسول الله (ص): ما من رجل ينظر إلى والديه نظر رحمة، إلّا كتب الله له بكلّ نظرة حجّة مبرورة” قيل: يا رسول الله، وإن نظر إليه في اليوم مائة مرّة؟ قال (ص): “وإن نظر إليه في اليوم مائة ألف مرّة . وعن النبي (ص): من أصبح مُرضيًا لأبويه أصبح له بابان مفتوحان إلى الجنة . وعن الإمام الصادق (ع): ثلاثُ دعواتٍ لا يُحجبن عن الله: دعاء الوالد لولده إذا برّه، ودعوته عليه إذا عقّه، ودعاء المظلوم على من ظلمه، ودعاؤه لمن انتَصر له منه . وقيل للإمام زين العابدين (ع): أنت أبرّ الناس، ولا نراك تُواكل أمّك، قال: أخاف أن أمدّ يدي إلى شيء، وقد سبقت عينها عليه، فأكون قد عققتها . وكما أنّ بر الوالدين يوجب الرحمة من الله سبحانه في الدنيا والآخرة؛ فإنّ عقوق الوالدين يوجب نقمة الله سبحانه والخذلان في الدنيا والآخرة، عن أمير المؤمنين (ع) قال: قال رسول الله (ص): ثلاثة من الذنوب تعجّل عقوبتها، ولا تؤخّر إلى الآخرة: عقوق الوالدين، والبغي على الناس، وكفر الإحسان .
أمّا جزاؤه في الآخرة؛ فلا تُقبل صلاته، ولا يرى رسول الله (ص)، وجزاؤه النار، ولا يشم ريح الجنة، عن الإمام الصادق (ع) قال: من نظر إلى أبويه نظر ماقت، وهما ظالمان له، لم يقبل الله له صلاة . وعن رسول الله (ص) قال: كلّ المسلمين يروني يوم القيامة، إلّا عاقّ الوالدين، وشارب الخمر، ومن سمع اسمي ولم يصلِّ عليَّ. وعنه (ص): كن بارًّا واقصر على الجنّة، وإن كنت عاقًّا فاقصر على النار . وعن رسول الله (ص): من أصبح مسخطًا لأبويه، أصبح له بابان مفتوحان إلى النار . ويجب بر الوالدين حيين وميتين، عن الإمام الصادق (ع): ما يمنع الرجل منكم أن يبرّ والديه حيّين وميّتين، يصلّي عنهما، ويتصدّق عنهما، ويحجّ عنهما، ويصوم عنهما، فيكون الّذي صنعَ لهما، وله مثل ذلك. فيزيده الله عزّ وجلّ ببرّه وصِلته خيرًا كثيرًا . وعن أبي جعفر (ع) قال: إنّ العبد ليكون برًّا بوالديه في حياتهما، ثمّ يموتان فلا يقضي عنهما ديونهما، ولا يستغفر لهما فيكتبه الله عاقًّا، وإنّه ليكون عاقًّا لهما في حياتهما، غير بارٍّ بهما فإذا ماتا قضى دينهما، واستغفر لهما فيكتبه الله عزّ وجلّ بارّا . وعن أمير المؤمنين (ع): قم عن مجلسك لأبيك ومعلّمك ولو كنت أميرًا . وعن أبي جعفر (ع) قال: إنّ أبي عليه السلام نظر إلى رجل ومعه ابنه يمشي، والابن متّكئ على ذراع الأب، قال عليه السلام: فما كلّمه أبي مقتًا له حتّى فارق الدنيا . وقال أحدهم للإمام الصادق (ع): إنّ أبي قد كبر جدًّا وضعف، فنحن نحمله إذا أراد الحاجة. فقال عليه السلام: “إن استطعت أن تلي ذلك منه فافعل، ولقّمه بيدك، فإنه جُنّةٌ لك غدا . وعن رسول الله (ص): النظر إلى وجه الوالدين عبادة . وفي الختام عن الإمام الصادق (ع) عن آبائه (ع): قال رسول الله (ص): رحم الله امرءًا أعان والده على برِّه، رحم الله والدًا أعان ولده على برِّه .
إننا نطالب المسؤولين اللبنانيين كافةً التزام أقصى درجات المصلحة الوطنية في الإعداد لما يُعرف بمؤتمرات دعم لبنان، وننبّه إلى خطورة تراكم الدين العام، وما سينتج عنه من أعباء جديدة على المواطنين . ونرى أنّ هذه الجولة من الانتخابات النيابية أوضح من سابقاتها بالنسبة للناخب، حيث أنّ طرح البرامج الانتخابية يُسهّل على الناخب اختيار من يمثّله في الندوة البرلمانية، خصوصاً أنّ بعض التيارات السياسية تطرح برامج تتضمّن ما يتناقض وميثاق العيش المشترك من عصبيات مقيتة أو تبعيات أو انقسامات، في حين أنّ هناك برامج تنموية تحمي لبنان وتعطيه الأمل بلبنان كطرف حر وليس بتابع . وإننا نؤكّد على أنه من المعيب سياسياً أن تستخدم القضايا الاقليمية وبالأخص القضية الفلسطينية في التجييش الانتخابي، ونشدّد على أنّ قضايا المقاومة والممانعة والقضية الفلسطينية لا تخضع للتجاذبات الانتخابية، خصوصاً أنّ مسيرة الصراع ضد المشروع الصهيو أمريكي في المنطقة أفرز المقاومين من غيرهم في لبنان وغيره من دول المنطقة .
ونختم بالإشارة إلى أن حماية مستقبل الدول لا يبنى على صفقات التسليح الأمريكي الخيالية لبعض الدول من أجل الامعان في ذبح وتدمير الشعوب، وقد أثبت الشعب اليمني قدرته على الصمود والتطوّر في المواجهة، ونتوجّه بالتحية للشعب اليمني الذي رغم ما يتعرّض له إلاّ أنه أعلن جهوزيته للوقوف مع الشعب اللبناني ميدانياً ضد أي عدوان صهيوني . وآخر دعوانا أن صلّ اللهم على محمد وآله الطاهرين والحمد لله رب العالمين
تصوير:رامي أمين