يتوهّم البعض في لبنان والمنطقة العربية أن حقدهم الأعمى بحق حزب الله يمنحهم شيئاً من الصدقية لدى الغرب. لكن المفارقة تكمن في أن إحدى أهم مؤسسات التعليم العالي في أميركا الشمالية (ماغيل) ترشد طلابها الى تعميق فهمهم للمسار النضالي الذي ينتهجه حزب الله منذ نشأته. في هذا الصرح الأكاديمي يتنوّر طالب العلم بالمعرفة، بغض النظر عن توجهاته السياسية والعقائدية. هنا لا مجال لتلفيق تهم الإرهاب بحق مقاومين (فهذا من اختصاص المحاكم الخاصة).
*عمر نشابة*
*مونتريال* | جامعة ماغيل التي تأسّست عام 1821 وتضم 300 برنامج أكاديمي للتعليم العالي وأكثر من 400 ألف طالب، تعرّف عن نفسها بأنها «من بين أعظم جامعات العالم». وأخيراً، وجّه القيّمون في الجامعة على مشروع بحثي بعنوان «المرأة والحرب في لبنان» دعوة الى كاتب متخصّص في «الأخبار» لإلقاء محاضرة تناولت كتاباً عن الحرب الاهلية من وجهة نظر نسائية، ومحاضرة أخرى بدعوة من منظمات لبنانية في مدينة مونتريال تناولت القانون الجديد للانتخابات النيابية في لبنان. وتعرّفت «الأخبار» خلال زيارة كندا الى معهد الدراسات الإسلامية في «ماغيل»، حيث يدرّس الدكتور مالك أبي صعب والدكتورة رلى جردي مادة أكاديمية بعنوان «الإصلاح الإسلامي والراديكالية في الشرق الاوسط». ويكتسب طلاب الليسانس (undergraduate) من خلال هذه المادة معرفة علمية بشأن تطوّر الحركات الاسلامية منذ انهيارالسلطنة العثمانية. ومن بين تلك الحركات يتعرّف الطلاب الى «حزب الله» الذي تصنّفه الحكومة الكندية «تنظيماً إرهابياً». غير أن منهاج هذه المادة التعليمية لا يأتي على ذكر الإرهاب، ولا يعتمد أبي صعب وجردي أيّ مراجع أو مصادر تنعت المحازبين المقاومين بالمخربين، وتحاول تفكيك مفهوم الإرهاب من خلال أمثلة تتعلّق بنضالات السود والهيئات النسوية والعمال في أميركا وكندا. لا بل إن أبي صعب شرح لـ«الأخبار»، خلال لقاء في مونتريال، أن «المسار النضالي الذي يتبعه حزب الله المتمثل بتحرير الجنوب اللبناني من الاحتلال الإسرائيلي، يشبه إلى حدّ ما مسارات نضالية أخرى في جنوب أفريقيا وفيتنام مثلاً».
ففي جنوب أفريقيا، صنّف المؤتمر الوطني الأفريقي الذي كان المناضل نيلسون مانديلا أحد أبرز قياداته بالإرهابي، وتعرض العديد من مناصريه للاضطهاد. ولا بد من التذكير بأن الراحل مانديلا كان قد دعا الى الكفاح الثوري المسلح لمواجهة نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، ورفض عروضاً بالحل السلمي مع النظام العنصري في جوهانسبرغ.
*بين الأصوليين والمتطرفين*
تتألف الحصص في المادة الأكاديمية التي تتناول حزب الله من جزءين أساسيين: الاول يشرح عقيدة الحزب وتوجهاته الفكرية التي تميّزه عن بعض الحركات الإسلامية المتطرفة، أما الجزء الثاني فيتطرق الى تطوّر المراحل التي مرّ بها الحزب منذ نشأته، ورؤيته الى الاوضاع المحلية والإقليمية والدولية.
يميّز الصف المذكور بين الحركات الأصولية والحركات المتطرفة، بحيث يُعدّ حزب الله من التنظيمات الإسلامية الأصولية، بينما تُعدّ الحركة الوهابية (السلفية) وتوجهات الجماعات الإسلامية المرتبطة بها متطرفة. وتشرح جردي أن هذا التمييز المحوري يتجلى في تفسير الدين والفقه، حيث إن هامش الاجتهاد لدى الأصوليين أوسع منه لدى المتطرفين. فالعقيدة الإسلامية التي يتبعها حزب الله تبتعد عن الانغلاق والجمود، وتحبّذ تطوّر المجتمع من خلال اجتهادات الوليّ الفقيه. كذلك تركز المواد المعتمدة في التدريس على أولوية المسألة الوطنية في استراتيجية حزب الله ونضاله في سبيل تحرير الارض المحتلة.
ويعود طلاب هذا الصف الى كتابات وتعاليم السيد محمد حسين فضل الله الحداثوية، التي تدعو الى تنوير الفكر من خلال تكوين مفهوم واضح لمقاصد الشريعة الإسلامية لا الى فرض الشريعة حرفياً وبالقوة من دون أي تفكير أو تطوير، نظراً إلى متطلبات العصر.
السيد الراحل فضل الله أرشد شباب حزب الله الى الحداثوية والتمدّن العصري، وبالتالي فإنه لا يختلف في الشكل عن الحركة الوهابية التي تشكل أساس قيام السلفية التكفيرية فحسب، بل في الجوهر والمنطلق أيضاً.
وكان أبي صعب وجردي قد قاما بأبحاث معمّقة عن الشيعة في لبنان، استندوا إليها لوضع كتاب بعنوان «شيعة لبنان: الحداثة والشيوعية وحزب الله» عام 2014 (منشورات جامعة سيراكيوز في ولاية نيو يورك).
وأجريت مقابلات مع عدد من مثقفي الحزب، بمن فيهم النائب علي فياض والباحث عبد الحليم فضل الله. وتبين لهما أن في الحزب تيارين فكريين، أحدهما تنويري ومنفتح وقريب من أفكار حركات التحرر اليسارية، والثاني أقل انفتاحاً وأكثر تشدداً في فرض التعاليم الإسلامية الصارمة.
*مراحل تطوّر الحزب*
يبدأ تعريف طلاب الليسانس في جامعة «ماغيل» الى المراحل التي مرّ بها حزب الله منذ نشأته بشرح تاريخ بعض قيادات الجيل الاول من الحزب مع منظمة التحرير الفلسطينية، وذلك للتأكيد على تلازم القضية الفلسطينية وفكر الحزب السياسي، وأيضاً لتبديد الفكرة الخاطئة السائدة عن العداء بين الفلسطينيين في مخيمات لبنان والشيعة. كذلك يشير أبي صعب وجردي الى المرحلة الجنينية من نشوء الحزب وعلاقة المؤسّسين بحركة أمل وبحزب الدعوة، وببعض المجموعات الطلابية الإسلامية في جبل عامل والنجف في العراق.
ويخصّص أبي صعب وجردي حيّزاً من التدريس للبحث في تبلور العلاقة مع الشيوعيين واليساريين وأيضاً للتدليل على الاستمرارية في النهج المقاوم الذي بدأ مع الشيوعيين عندما أطلقوا المقاومة الوطنية اللبنانية ضد الغزو الاسرائيلي سنة 1982. وتلفت جردي النظر الى أن هناك جناحين من المحازبين في حزب الله، أحدهما يتأثر بنهج محسن الحكيم المعادي للشيوعيين والرافض لأي بحث في تلاقي الأجندة السياسية اليسارية مع الأجندة السياسية الإسلامية، وثانيهما متأثر بالشهيد محمد باقر الصدر المنفتح على النقاش والتبادل الفكري الجدي مع اليساريين.
«تشجّع جامعة ماغيل طلابها على نقد وتفكيك المقولات والمفاهيم المعرفية السائدة حول حركات المقاومة والتحرر»
ولمزيد من التوضيح بشأن تطوّر الفكر والتوجه لدى قيادات الحزب ومناصريه، يسرد أبي صعب وجردي لطلابهما تسلسل الاحداث من خلال ثلاث حقبات زمنية:
ــ حقبة العمل السرّي السابق لتأسيس الحزب 1982 ــ 1985: لم يكن هناك حزب الله بالمعنى التنظيمي خلال هذه المرحلة التي شهدت تجنيد الشباب للانخراط في المقاومة الإسلامية المسلحة ضدّ الاحتلال الإسرائيلي للبنان وبداية تحديد النهج والعقيدة.
ــ حقبة تأسيس الحزب وتنظيم المناصرين 1985 ــ 2009: تأسّست منظمة حزب الله خلال هذه المرحلة ووضعت الوثيقة التأسيسية الاولى لها. وأنشأت الشورى والأمانة العامة، وتحددت الهيكلية التنظيمية، وتوزعت المسؤوليات، ووضعت أنظمة داخلية ومالية وعسكرية، وأسّست الهيئات الاجتماعية والتربوية والطبية والخدماتية التابعة للحزب.
ــ حقبة تطوير الحزب وتحديث قدراته 2009 ــ 2018: وضعت الوثيقة الثانية للحزب عام 2009، وتعدلت فيها بعض التوجهات، وأهمها يتعلق بالتنازل عن قيام الدولة الإسلامية في لبنان، وبتحالفات الحزب المحلية، وبمواجهة التكفيريين، وبالعلاقة مع القوى الدولية.
يهدف أبي صعب وجردي من خلال تعليم هذه المادة الأكاديمية إلى الإسهام في تطوير الأسس المنهجية العلمية التي يعتمدها الطلاب في أبحاثهم، وذلك عبر نقد وتفكيك المقولات والمفاهيم المعرفية السائدة حول حركات المقاومة والتحرر. وأسهما في دحض الصورة النمطية التي رسمها المستشرقون (الجدد والقدماء) عن مسار التغيير في المجتمعات الاسلامية. وتطرح جردي وأبي صعب تصورات جديدة وخلّاقة حول فهم تاريخ شعوب منطقة الشرق الاوسط ترتكز على مواد محلية مستمدة من أرشيف الدول والمكتبات الدينية والأحزاب المعنية، وأيضاً من خلال التاريخ الشفهي وذاكرة شخصيات دينية ومدنية لعبت أدواراً مهمة في تاريخنا العربي الإسلامي الحديث.
(المصدر: الأخبار)