حسن اسماعيل|
ما كنا نخفيه، آن أوان روايته.
( #25_أيار #عيدالمقاومةوالتحرير )
انتمي لطبقة الجنوبيين، الذين ولدوا بعيدًا عن الجنوب وعاشوا طفولتهم بين الاسمنت، وحملوا هويات وبيانات قيد عليها اسماء قرى لم يعرفوا عنها سوى قصصًا من اهلهم. وهذه طبقة مختلفة قليلًا، لأنها كانت ممنوعة من زيارة قرى “الشريط” رغم كون افرادها اطفالًا. السبب كان “شغل البابا”.
شغل البابا الذي حرصت والدتي على اخباري به حين بدأ وعيي يتشكّل، وكان يصر والدي على اخفائه. كان الحرج شديدًا لطفل في مدرسة، ان يموّه عمل والده، ويقول عنه ببساطة “الشغل”.
غاب والدي عن المنزل في مناسبات مختلفة، علمت الفحوى لاحقًا. لكنه كان يخبرني عن وديان الجنوب والبراري التي يمكن ان يختبئ فيها اي شخص دون ان يلاحظه احد. كان يحدثني عن ضبع التقاه ليلًا او افعى مرت على جسده وهو منبطح، دون ان ينبس ببنت شفة. لماذا قد يحتاج رجل ثلاثيني للاختباء في مغاور، او يلتقي حيوانات برية ولا جرأة لديه على الحركة؟
وقتذاك صرت ارسم صورة المقاتل في خيالي. كبرت واشتريت شريط فيديو اعده الاعلام الحربي بعنوان “عمليات المقاومة الاسلامية” رغم عدم امتلاكنا لجهاز فيديو في ذلك الحين. ثم بدأكان زمن العاب الكومبيوتر حيث اتقمص شخصية المحارب المسلح. الصورة صارت تتضح شيئًا فشيئًا مع الوقت : فحين اشترينا جهاز فيديو ادركت ان نصف العمليات في ذلك الشريط كان والدي قد حكى قصتها لي ذات ليل، وصرت افهم مع العاب الحاسوب لماذا قد يضطر احدنا للاختباء في الاحراج. فهمت معنى الرصد والاشارة والعبوة والمدى العملاني والاقتحام والتخريب.
صرت اكبر وعاشت الصورة معي. لكن مع بزوغ فجر التحرير، ذهب معظم اصدقائي الى قراهم المحررة في اليوم ذاته او الذي تلاه. بقيت واخوتي ووالدتي في المنزل، فالوالد ليس هنا ليأخذنا بالسيارة. اين هو؟ عاد الصمت المعهود حول سرية عمله. صمتت واكتفيت بالتلفاز، حتى زارنا عمّي وتوجهنا الى القرية بسيارته بعد ايام. صبر الطفل ذي السنوات العشر بات ينفد. يريد رؤية قريته التي اشتهرت بأسوأ سجن اسرائيلي، وأجمل سهل زراعي. كان السهل ساحرًا، واسعًا جدًا في عيون الطفل، كالقصص. كيف لا وهو كان يعتبر “بورة” خضراء في بيروت وضاحيتها جنة عدن.
وصلنا الى “مدرسة الضيعة”، نزل عمي من السيارة وسلم على رجل لم اعرفه بحراره. دققت في ملامح الرجل، فقد احببت ان اتبين كيف يكون شكل اهل القرية. كان يرتدي بدلة زيتية، ويحمل سلاحاً يبدو بوضوح انه كلاشنيكوف كالذي كنا نمتلكه في المنزل فوق الخزانة. لم يكن ذلك الرجل الا والدي الذي غادر المنزل منذ ايام. صورة المقاتل صارت حقيقية الآن، ولم يعد من ضرورة للتخيل. كانت الصدمة الاولى.
————– ————– ————–
في المدرسة تجمع بعض الرجال بشكل مذل، سالته عنهم فقال انهم عملاء لحديون. لم أرَ “عميلًا” من قبل، اجبته بسرعة متسائلا عن سبب ابقائهم على قيد الحياة! عبس في وجهي، وأشاح بنظره الى تلة بعيدة، عرفت لاحقاً انها “المعتقل” السيء الذكر، وقال :”نحن لسنا مثلهم، ولن نكون مثلهم يومًا”.
هذه قصتي مع التحرير، وغيرها آلاف لم يروها ابناء الابطال، منتظرين عبثًا ان ينصفهم التاريخ.