داني حداد|
هنا صور وبحرها، وهنا جوليا، كما كانت منذ سبعٍ وعشرين عاماً. صبيّةٌ تقف على مسرح لتنشد، بالحنجرة والقلب، وصوت القلب أقوى: “منرفض نحنا نموت… قولولن رح نبقى”.
بقينا يا جوليا، وعدنا معك الى الجنوب، ولكنّنا خسرنا كثيرين، موتاً وغربةً ويأساً من وطنٍ كأنّه يتأرجح بين الحياة والموت. لا ينهض ولا تعلَن وفاته.
هنا صور، وهنا جوليا. والصوت يقتحم كلّ الأماكن. كأنّ ابنة السبعة والعشرين غناءً تمسكنا بأيدينا لنمضي معها الى مطارح العشق، وضفاف نهر يفصل بين حبيبين، وسهول من قمحٍ تركض فيها صبيّة مع شالها الملوّن قبل أن يطير ليعانق الشمس. ونمضي أيضاً الى ميادين المواجهة مع العدوّ، كلّ عدوّ. نبكي شهيداً، ثمّ ننهض لنرفع علم لبنان فوق تلّة ونتلو صلاةً مشتركة للأديان كلّها.
الحبّ والوطن، وجوليا بينهما. تماماً كما وقفت وسط الفرقة الموسيقيّة الضخمة، كما العادة. زياد بطرس لا يخيّب ظنّ أحد، بل يفاجئ إيجاباً الى حدّ الصدمة. والياس بو صعب سخيٌّ في الإنتاج. وجوليا تدخر صوتها لعامين، ثمّ تفجّره كينبوعٍ نحمل منه زاداً يكفينا في أشهر الغياب. وما أقسى الغياب، حين تحلّ فيه أصوات النشاز وألحان النشاز…
يختلف الأمر مع جوليا. وقد اختلف أكثر في صور، وكأنّها الحفلة الأخيرة فجاءت بمستوى غير مسبوق، لا في لبنان ولا في هذا الشرق الحزين لولا بعض ومضات الفنّ، ومنها هذا العائلة “البطرسيّة” التي تقلّ في الكلام وتبدع في الأفعال، ولا تعرف انقساماً ولا تنزلق الى خلافات، بل يتكامل أفرادها فنغتني بما يصنعون… والصعب يجعله بو صعب سهلاً.
غنّت جوليا جديدها، وتفاعل الجمهور معه، خصوصاً “بكرا شي نهار”، وفيها غصّة في الكلمات وصوَر تحرّض الخيال في اللحن. وغنّت للوطن، ورفعنا معها الصوت “يرحلون ونبقى والأرض لنا ستبقى”، وهي استذكرت تمّوز العدوان والمأساة والانتصار، ثمّ كانت “أحبّائي” مع جمهور متأهّب وقبضات ترتفع في سماء صور.
ورافق تأهب الجمهور أغنيات كثيرة. “أنا بتنفّس حريّة”، و”عاب مجدك”، و”سأقاوم”… ولعلّ الصوت وصل في هذا الليل الى فلسطين المحتلّة المنسيّة. صوت جوليا وهدير الناس. لكنّ الهدير، على قوّته، لا يوقظ بعض الحكّام العرب من نومهم. كم هو ثقيل نوم بعض حكّام العرب!
وغنّى الجمهور معها وعنها “يوماً ما” و”وين مسافر”، وقد سافرنا مع شراع صوتها في قاربٍ الى من نحبّ.
وكانت من جوليا تحيّة لوالدها، آخر يدٍ تمسكها قبل صعودها الى المسرح، وانعجن تصفيق الجمهور بدمعةٍ ذرفتها. وتحيّة مثلها الى والدتها التي كانت تخيّط لها ملابسها في البدايات، وهي ارتدت في الأمس فستاناً برّاقاً من توقيع ايلي صعب.
لم يكفّ جمهور جوليا ليل أمس عن التصفيق والغناء. من الصفّ الأول، حيث وقف لها “الأستاذ” نبيه بري مرّتين مصفّقاً، الى الصفوف الأخيرة. فهي كانت “الأستاذة” في الجنوب، هذه المرّة. وهي التي تعلّم أنّ الفنّ احتراف واحترام وتواضع لا يلغي الهيبة، وهذا المزيج الذي يتوفّر لجوليا، وتضيف إليه صوتها وأداءها والتزامها.
هنا صور، وفي ليلِها التمّوزيّ قمران. قمرٌ ينير وقمرٌ يغنّي. وفيها بحران، بحرٌ من ماء وآخر من ناس توافدوا من لبنان وخارجه، بالآلاف.
تصوير: هديل اسكندر