Home / اخبار رئيسية / الزرارية… الشاهدة والشهيدة

الزرارية… الشاهدة والشهيدة

ليس حبّاً بذكر المجازر، لذاتها، وليس بدافع مِن مازوشيّة جماعيّة، كما ليس أنساً بانكسار لتأبيده… بل، وببساطة، لأنّ تلك الأشياء حصلت، ثم طُمِست أو تكاد. لأنّ ذاك الكيان، الإسرائيلي، الداخل اليوم في «صفقة عصر» لكسب شرعيّة، أخلاقيّة وأشياء أخرى، هو مَن فعل تلك المجازر، ولم يتنصّل مِنها… هذا إن كان للسيف أن يتنصّل مِن غمده. لأنّ هناك مِن ولد وشبّ على حياة، هنا، ولم يُحط بتلك الفظاعات علماً. لأنّ القاتل، الذي خرج عنده مَن أرّخ لأفعاله، نسبيّاً، فيما كان القتيل يُلملم ما بقي مِن حياة، ثم يُهمَل مِمّن اؤتمن على تلك الحياة. لأنّ هناك مَن قصّر، وهناك مَن استسهل، وهناك مَن ضحك أو بكى ورحل. لكلّ ذلك، وأكثر، نورد اليوم حكايات بعض تلك المجازر، على ضحالة ما في الأرشيف، فضلاً عن شحيح الذاكرة الشفويّة، بعد طول المدّة، ليعرف مَن لا يَعرف، اليوم، وليَعرف مَن سيأتي بعدنا، غداً، أنّ ذلك حصل، بعض مِمّا حصل، في تموز وأقرانه من أشهر وأيام وسنين وعقود.

تستقبلك الزرارية بتمثال أُريد له تخليد ذكرى شهداء لم يكونوا حكراً على أحد

«وينو رضا يا حاج وينو أحمد يا حاج!»… كلمات قالها الستيني أحمد علي يوسف ذات يوم من عام 1985، بعد انتهاء «الإرهاب» الإسرائيلي من مجزرته بحق أهالي بلدة الزرارية الجنوبية، في صبيحة الـحادي عشر من آذار من تلك السنة.
33 عاماً مرت على المذبحة، ولا تزال كلمات الحاج يوسف (90 سنة)، عالقة في أذهان أبناء هذه البلدة، يرددونها كلما جاءهم من يستطلع أخبار تلك المجزرة التي استشهد فيها 40 مواطناً، عزَّلاً ومقاتلين، من مختلف التوجهات الحزبية… أما السبب، فقد خطّه الإسرائيلي على جدران البلدة حينها: «انتقام جيش الدفاع الإسرائيلي لكل قطرة دمٍ يهودي». جملة تختزل رواية الإسرائيلي، أما الجنوبيون، فلهم روايتهم الشاهدة والشهيدة.
يستذكر مختار بلدة الزرارية محمد هاشم، (شقيق الشهيد نعمة هاشم الذي قاد عمليات نوعية ضد الاحتلال)، الأيام التي سبقت المجزرة، وهو الذي كان أسير «معتقل أنصار» حين ارتكابها. يروي كيف أنه بعد الضربات التي وجَّهها المقاومون للاحتلال، وقتل في إحداها واحد من أرفع ضباط المنطقة الشمالية الكولونيل إبراهام عاموس، قررت قيادة الاحتلال الانتقام من أهالي البلدة التي كانوا يعتبرونها واحدة من المعاقل الأساسية للمقاومة.
«الشهيد نعمة كان المطلوب رقم 1»، يوضح المختار وقد بانت على وجهه النحيل إمارات الفخر؛ يقول: «ذات مرة، سألت نعمة عن عدم إقدامه على الزواج وقد قارب سنه منتصف العشرين، فأجابني لن أتزوج ما دام هناك شبر من أرض الجنوب محتلاً». يسترسل «أبو عماد» في سرد سيرة الشهيد وما قام به بقرار ذاتي، بدءاً من التحشيد واستقطاب شبان البلدة، مروراً بتأمين السلاح من صيدا، وتحديداً من مخازن «الجبهة الشعبية ــــ القيادة العامة»، وصولاً للعملية المزدوجة التي نفذها مع اثنين من رفاقه، وقتل فيها عاموس ومعه عدد من جنود الاحتلال، بعد تفجير عبوتين على الطريق بين بلدتي الزرارية وارزاي. إلى جانب «القيادة العامة»، يوضح المهندس رياض الأسعد كيف كان يزود المناضلين بالسلاح لقتال إسرائيل، وهو الذي كان يقيم حينها في مدينة بيروت، منضوياً تحت لواء «حركة أمل»؛ يقول إنه كان يمتلك مخزناً كبيراً للأسلحة في ضهور الزرارية، يستعين فيه المقاومون لتنفيذ عملياتهم.
أما زاهي مروِّة، وهو أحد المناضلين الذين نجوا من المجزرة بعدما أصيب برصاصتين أثناء الاشتباك مع القوات المهاجمة وتم اعتقاله، فيتردد في الكلام عن تلك المجزرة؛ تردده متصل بشعوره بالإهمال الذي «كوفئ» به من قبل الدولة اللبنانية. يسأل مروِّة ونحن على عتبة باب منزله: «لماذا تريدون نبش قصص عفا عنها الزمن ومضى؟ راح اللي راح والباقي ما بيستاهل». لا يلبث أن يدعونا بعدها بكثير من الحرارة والترحيب للدخول إلى منزله. يشرح مروِّة تفاصيل تلك العملية المزدوجة التي نفذها مع الشهيد محمد علي محمود مروة ونعمة هاشم. «كانت الضربة الأقسى للعدو يوم 14 كانون الثاني من العام 1985، والتي أجبرت مجلس وزراء العدو المصغر (الكابينت) على الاجتماع في اليوم ذاته ليلاً، وإقرار خطة الانسحاب من صيدا باتجاه النبطية وقراها». يتوقف هنيهة للتدقيق بالتاريخ، يتمعن بصورة على هاتفه فيها نص مقابلة كان قد أجراها مع صحيفة «السفير» في ما مضى، يذكر فيها أن العملية تم تنفيذها في 14 شباط 1985. إنها خيانة الذاكرة، وأول ضحاياها مروِّة.
«كِنا خلَّصنا صلاة أني والحج وبدو يروح يشقِّ عالدجاجات بالقِن، وهيك منسمع دَب (صوت قصف) كتير قوي جايي من صوب بريقع (قرية تقع إلى الشمال من الزرارية)، ركضت عند الحاج بدي قله يضهر يشوف شو فيه، إلا وبيجي الصوت من برا شاب يصرخ الإسرائيلية فايتين عالضيعة»؛ تقول سيدة في منتصف الستين. تضيف وهي ترفض الإفصاح عن اسمها: «قال لي الحاج خليكي بالدار وتطلعيش لبرا، أني رايح ومش مطوِّل، لِك لِك ع هالحكي أني قلبي تقى مش حاملني والدَب عم يقوى، بعد شوي طلَّيت من الطاقة (نافذة صغيرة) وبلاقي اليهود والدبابات بالضيعة، والشباب ملقَّحين بالطرقات».

الاخبار

Check Also

غزة ما بعد العصر الإسرائيلي: قيامةٌ لا رجعة منها

يمثّل تحرير قطاع غزة من الاحتلال الإسرائيلي محطّة مضيئة في الصراع المستمرّ مع العدو، كونه …

Open chat
أهلاً وسهلاً بكم