نعم أحبّهم…
أحبّهم، وأعشق طيبتهم، وبساطتهم، وعفويتهم، ومقاومتهم.
حبّي لهم ليس موروثًا ولا أعمى، بل عن قناعة مطلقة يحكمها العقل.
أحببتهم من دون مقابل يوم تعرّفت إليهم في حيّ اللّجا في بيروت، فتجرّأت أن أطوي صفحة لبنان، وأزور جنوبهم. ذاك الجنوب الّذي ما كنت أتوقّع أن أزوره يومًا لأسباب كثيرة. وإذا بالقدر يحملني إليه في التّاسع من محرّم 2015، ويعرّفني إلى أناس شرّعوا لي أبواب قلوبهم قبل بيوتهم، فدخلتها حافيًا من كلّ مصلحة شخصيّة، وهدف، وغاية.
ها هي الدّكتورة ليلى شمس الدّين في وجه كلّ امرأة جنوبيّة، وها هو الدّكتور علي حطيط في وجه كلّ رجل جنوبيّ. وما أدراكم من هما ليلى وعلي بالنّسبة إليّ!
أكلت في الجنوب فراكة، وملسة “عالبلاطة”، وهريسة، ولحم بعجين، وكعك العبّاس، وملوخيّة حرّة، وبطاطا حرّة… وشاركت الجنوبيّين أفراحهم وأتراحهم، ونمت في بيوتهم، ودخلت حسينيّاتهم معتليًا منابرها.
لم أكن أتوقّع أن أرى ما رأيت، فقد كان الجنوب في ذهني أبنيةً وبيوتًا مدمّرَةً، وأرضًا منهكَةً، لكنّ الواقع طاح بالخيال. ما رأيت إلّا جميلًا: بيوتًا وأبنيةً فخمةً، وقصورًا مترفةً، وطرقات معبّدَةً نظيفةً، ومطاعم وفنادق ومقاه حديثةً… هكذا هو الجنوب واحة جميلة غنّاء، ذنبها الوحيد أنّها عرين شعب مقاوم دحر الاحتلال، وهزم العدوّ الصّهيونيّ، فأسقط بذلك أحلام الكثيرين من الخونة والعملاء في بلادي.
ذنب الجنوب أنّه “للشّيعة”، كما يقول الكثيرون من الطّائفيّين الحمقى.
هذا الجنوب الشّيعيّ يحتضن عشرات الكنائس، والأديرة، والآثار المسيحيّة، منها آثار عرس قانا.
هذا الجنوب الشّيعيّ لم يكسر فيه صليب، ولم تهدم فيه كنيسة، ولم يتعرّض فيه مسيحيّ لاعتداء أو اضطهاد حتّى في فترة الحرب الأهليّة.
هذا الجنوب الشّيعيّ يمكنك أن ترتدي فيه ما شئت، وتعيش فيه كما يحلو لك، وتحتسي الكحول في عدد كبير من المقاهي والمطاعم المنتشرة فيه.
أهل الجنوب دفعوا غاليًا ثمن كرامة لبنان وعزّة أبنائه: حاربوا العدوّ الإسرائيليّ، وضحّوا بخيرة شبابهم، وبأملاكهم وأرزاقهم، فصنعوا لنا مجدًا نتغنّى به كلّ يوم، وستتغنّى به الأجيال المقبلة، كما سيحسدنا أبناؤنا وأحفادنا أنّا عشنا في زمن صنّاعه، رجال الله، أبطال حركة أمل وحزب الله الّذين سطّروا بدمائهم أروع ملاحم البطولة والنّصر الإلهيّ.
ذنب الجنوب أنّه لم يقبل يومًا أن يكون إسرائيليًّا، وجريمة أهله أنّهم رفضوا أن يكونوا محرومين مستضعفين مطأطئي الرّؤوس، وأبوا أن يسلّموا أرضهم لعدوّ غاصب طامع لا حقّ له في بلادنا، فبقوا مخرزًا في عيون الصّهاينة، وعلقمًا في حناجر لبنانيّين خونة، نسجوا أحلامهم على متن الدّبّابات الإسرائيليّة، فلم تهزّ ضمائرهم دماء أطفال قانا، وأشلاء الرّجال في القرى الجنوبيّة، ودموع أمّهات الشّهداء، ولم توقظ وطنيّتهم الاعتداءات الإسرائيليّة المتكرّرة، وأطماع الصّهاينة.
لا أستغرب حقد البعض على الجنوب، وسعيهم إلى تشويه صورة أبنائه، فجنوبنا الحبيب هو مقبرة العدوّ الإسرائيليّ سيّد هذا “البعض” من اللّاهثين المنبطحين الحاقدين المتآمرين السّاقطين في بلادي.
فيا جنوب العيش المشترك والكرامة، أحبّ أرضك الخصبة الصّامدة، وأعشق أهلك الطّيّبين الأوفياء، وأثمّن تضحيات أبنائك المقاومين.
يا جبل عامل الشّامخ بأبطالك وشهدائك، العصيّ على العدوّ الإسرائيليّ، أفتخر بأبنائك الّذين غيّروا معادلات التّاريخ، فأذلوا العدوّ، ودحروه، وأرعبوه، وأسقطوا ورقة التّوت عن عورات كثيرة في بلادي.
سركيس الشّيخا الدّويهي