۞ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ۞
في السنة الثامنة للهجرة النبوية الشريفة فتح رسول الله (ص) مكّة، وطهّرها من الأصنام، وعاد إلى المدينة، وصارت القبائل العربية تتوافد إلى المدينة، وتعلن إسلامها، وسُمّيت السنة التاسعة للهجرة عام الوفود، في تلك السنة فرض الله الحج على المسلمين، وتهيّأ النبي (ص) للحج في السنة العاشرة للهجرة المباركة، أعلن النبي (ص) نيّته الحج، وأخبر المسلمين ذلك مُبيّناً أنّ نفسه الطاهرة نُعيت إليه، وهو (ص) يرغب بالحج، ودعا المسلمين لمرافقته، فخرج معه من المدينة وجوارها ما يقارب السبعين ألفاً يريدون أن يحجّوا مع رسول الله (ص) وكان خروجهم من المدينة في الخامس والعشرين من شهر ذي القعدة في السنة العاشرة للهجرة، أحرم النبي (ص) والمسلمون معه من مسجد الشجرة، ثمّ لبّى ولبّى معه المسلمون، قائلاً: لبّيك اللهم لبّيك، لبّيك لا شريك لك لبّيك، إنّ الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك لبّيك . ودخل ومن معه مكة، وقد وصل عديد الحجيج حوالي الماية والعشرين ألفاً، لالتحاق الكثير من المسلمين بالنبي (ص)، وجاء الإمام علي (ع) والمسلمون معه من اليمن، في الحديث أنّ جابر وصف حجّة النبي (ص) في رواية طويلة، فقال: إن رسول الله (ص) مكث تسع سنين لم يحج ثم أذن في الناس في العاشرة أن رسول الله (ص) حاجّ فقدم المدينة بشرٌ كثيرٌ كلهم يلتمس أن يأتمَّ برسول الله (ص) ويعمل مثل عمله، فخرجنا معه …
حضر المسلمون ليتشرّفوا بالحج مع الرسول (ص)، إذْ ليس أفضل من حجّةٍ يؤمّهم فيها خير البشر وأفضلهم وخاتم الأنبياء، ويهتدون بهديه، ويقلّدونه بأعماله، ويأخذون عنه مناسكهم، فحضروا المناسك كلّها مع رسول الله (ص)، طافوا معه بالبيت، وشاركوه الوقوف في عرفة وفي المشعر الحرام ومزدلفة، وشاركوه بأعمال منى من هدي ورمي الجمرات والتقصير، وباتوا معه واستمعوا إلى خطبه (ص) التي بيّن لهم فيها أحكام الدين وحدوده .
يذكر صاحب كتاب السيرة الحلبية أنّ النبي (ص) خطب في الحج خمس خطب؛ الأولى في اليوم السابع في مكة، والثانية في عرفة [ المعروفة بخطبة حجّة الوداع]، والثالثة يوم النحر، والرابعة يوم النفر بمنى، والخامسة يوم النفر من مكة، ومع خطبة الغدير تكون خطب النبي في رحلة حجّه الأخيرة ست خطب، أهمّها خطبة يوم عرفة المعروفة بخطبة الوداع، وخطبة يوم الغدير، ومما جاء في خطبة الوداع بعد حمد الله والثناء عليه وذكر نعمائه؛ قوله (ص): أما بعد أيها الناس اسمعوا مني أبين لكم فإني لا أدري لعلى لا ألقاكم بعد عامي هذا في موقفي هذا … أيها الناس إن دماءكم وأعراضكم حرام عليكم إلى أن تلقوا ربكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا. وقال (ص) فيها: أيها الناس إن الشيطان قد يئس أن يعبد في أرضكم هذه، ولكنه قد رضي أن يطاع فيما سوى ذلك مما تحرقون من أعمالكم … ويقول فيها: أيها الناس إن لنسائكم عليكم حقاً ولكم عليهن حق. لكم أن لا يواطئن فرشهم غيركم، ولا يدخلن أحداً تكرهونه بيوتكم إلا بإذنكم ولا يأتين بفاحشة، فإن فعلن فإن الله قد أذن لكم أن تعضلوهن وتهجروهن في المضاجع وتضربوهن ضرباً غير مبرح، فإن انتهين وأطعنكم فعليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف، واستوصوا بالنساء خيراً، فإنهن عندكم عوان لا يملكن لأنفسهن شيئاً، وإنكم إنما أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله فاتقوا الله في النساء واستوصوا بهن خيراً … أيها الناس إنما المؤمنون إخوة ولا يحل لامرئ مال أخيه إلا عن طيب نفس منه – ألا هل بلغت اللهم فاشهد. فلا ترجعون بعدى كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض، فإني قد تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا بعده: كتاب الله وعترتي أهل بيتي، ألا هل بلغت … اللهم فاشهد … أيها الناس إن ربكم واحد وإن أباكم واحد كلكم لآدم وآدم من تراب أكرمكم عند الله اتقاكم، وليس لعربي على أعجمي فضل إلا بالتقوى – ألا هل بلغت….اللهم فاشهد قالوا نعم – قال فليبلغ الشاهد الغائب .
هذه الخطب بيّن فيها النبي (ص) ما يقوم عليه الإسلام المحمدي الأصيل، المرتكز على الوحدة الإنسانية بين البشر، وإلغاء التمايز القومي، وحسن معاملة الأزواج، وإلغاء آثار الجاهلية وإرساء مبدأ الأخوة، والتكافؤ والتكافل بين المسلمين، وإن من قال لا إله إلاّ الله فقد عصم ماله ودمه، وختم لهم بأن النجاة باتباع كتاب الله سبحانه وعترته أهل بيته، وبعد خروجه (ص) من مكّة بعد انتهاء شعائر الحج أرسل إلى من تجاوز منطقة غدير خم أن يعود إليها، ومن كان فيها أن ينتظر وصول رسول الله (ص)، واجتمع المسلمون وكان العدد حوالي المائة والعشرين ألفاً في غدير خم قرب الجحفة، وكان ذلك في الثامن عشر من ذي الحجة، وكان الاجتماع تنفيذاً لأمر الله تعالى ” “أمر النبي (ص) الصلاة جامعة، وصُنع له منبر من أحداج الإبل وصعد عليه، وخطب خطبة عظيمة، كما يرويها الشيخ الأميني في كتاب الغدير: صعد النبي (ص) على المنبر؛ وقال: الحمد لله ونستعينه ونؤمن به، ونتوكل عليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا الذي لا هادي لمن ضل، ولا مضل لمن هدى، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله – أما بعد -: أيها الناس قد نبأني اللطيف الخبير أنه لم يعمر نبي إلا مثل نصف عمر الذي قبله، وإني أوشك أن أدعى فأجبت، وإني مسؤول وأنتم مسؤولون، فماذا أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد أنك قد بلغت ونصحت وجهدت فجزاك الله خيراً . وأتم إلى أن قال (ص): كيف تخلفوني في الثقلين فنادى مناد: وما الثقلان يا رسول الله؟ قال: الثقل الأكبر كتاب الله طرف بيد الله عز وجل و طرف بأيديكم فتمسكوا به لا تضلوا، والآخر الأصغر عترتي، وإن اللطيف الخبير نبأني أنهما لن يتفرقا حتى يردا علي الحوض فسألت ذلك لهما ربي، فلا تقدموهما فتهلكوا ولا تقصروا عنهما فتهلكوا، ثم أخذ بيد علي فرفعها حتى رؤي بياض آباطهما وعرفه القوم أجمعون، فقال: أيها الناس من أولى الناس بالمؤمنين من أنفسهم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: إن الله مولاي وأنا مولى المؤمنين وأنا أولى بهم من أنفسهم فمن كنت مولاه فعلي مولاه، يقولها ثلث مرات، وفي لفظ أحمد إمام الحنابلة: أربع مرات ثم قال: اللهم والِ من والاه، وعادِ من عاداه، وأحبْ من أحبه، وأبغضْ من أبغضه، وانصرْ من نصره، واخذلْ من خذله، وأدرْ الحق معه حيث دار، ألا فليبلغ الشاهد الغايب، ثم لم يتفرقوا حتى نزل أمين وحي الله بقوله: اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي، الآية. فقال رسول الله (ص): الله أكبر على إكمال الدين، وإتمام النعمة، ورضى الرب برسالتي، والولاية لعلي من بعدي .
ثمّ رُفعت خيمة وقف تحتها علي (ع)، وطفق القوم يهنئون أمير المؤمنين صلوات الله عليه وممن هنأه في مقدم الصحابة: الشيخان أبو بكر وعمر كل يقول: بخ بخ لك يا بن أبي طالب أصبحت وأمسيت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة، وقال ابن عباس: وجبت والله في أعناق القوم، فقال حسان: إئذن لي يا رسول الله أن أقول في علي أبياتا تسمعهن، فقال: قل على بركة الله، فقام حسان فقال: يا معشر مشيخة قريش أتبعها قولي بشهادة من رسول الله في الولاية ماضية ثم قال:
يناديهم يوم الغدير نبيهم * بخم فاسمع بالرسول مناديا
وقد جاءه جبريل عن امر ربه * بانك معصوم فلا تك وانيا
وبلّغهم ماانزل الله ربهم * اليك ولاتخشى هناك الاعاديا
فقام به اذ ذاك رافع كفه * بكف علي معلن الصوت عاليا
فقال: فمن مولاكم ونبيكم * فقالوا ولم يبدوا هناك التعاميا
إلهك مولانا وأنت نبينا * ولم تلق منا في الولاية عاصيا
فقال له : قم يا علي فإنني * رضيتك من بعدي إماماً وهادياً
فمن كنت مولاه فهذا وليه * فكونوا له اتباع صدق موالياً
هناك دعا اللهم وال وليه * وكن للذي عادا علياً معاديا
فيا رب انصر ناصريه لنصرهم * إمام هدىً كالبدر يجلو الدياجيا
باتفاق جميع الرواة أنّ رسول الله (ص) قال: من كنت مولاه فهذا علي مولاه . بعد أن كان قال لهم: ألستُ أولى بكم من أنفسكم؟. فأفهمهم أنّ ولاية علي (ع) كولايته (ص)، وعاد (ص) إلى المدينة وتفرّق المسلمون إلى بلدانهم، وفي المدينة ظهرت علامات المرض على رسول الله (ص)، وظهر على البعض عدم الرضا بتولية علي (ع)، مع إشارة النبي (ص) من أول يوم صدح فيه بدعوته، فأكّد أن الخليفة من بعده هو علي (ع)؛ كحديث يوم الدار، وتأكيده ذلك في عدّة مناسبات، كقوله (ص) لعلي: أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنه لا نبي بعدي . وقوله: علي مع الحق والحق مع علي . أنا مدينة العلم وعلي بابها . وحاول النبي (ص) أن يُخلي المدينة ممن يحتمل معارضته؛ فأمر بتشكيل جيش بقيادة أسامة بن زيد، وأمر الجميع بالخروج معه، بمن فيهم أبو بكر وعمر وكبار الصحابة، باستثناء علي (ع)، وعندما لاحظ رسول الله (ص) تباطوء البعض عن الخروج؛ قال: ارسلوا جيش أسامة، لعن الله من تخلّف عن جيش أسامة .
وإمعاناً في التجاهل أخذ البعض يسأل رسول الله (ص): لمن الأمر من بعدك ؟ فقال (ص): آتوني بدواة وكتف أكتب لكم كتاباً لن تضلّوا بعده أبداً . فقام أحدهم معارضاً وقال: إنّ النبي ليهجُر . واختلف من كانوا في محضر رسول الله (ص) بين قائلٍ: القول ما قال الرجل . وقائلٍ: آتوا رسول الله بما طلب . فقال النبي (ص): اخرجوا؛ لا ينبغي عند نبي نزاع . وأغمي على رسول الله (ص)، وعندما أفاق قال أحدهم: لآتينّ رسول الله بما طلب ولو رغمت أنوف قوم . فقال النبي (ص): أو بعد الذي قيل . كان مراد النبي (ص) أن يقطع النزاع، لكن بعد إظهار القوم للنزاع فلا تنفع الكتابة، لكنه (ص) أكّد قوله: إنّي تاركٌ فيكم الثقلين … وانتقل رسول الله (ص) إلى الرفيق الأعلى، وانشغل أمير المؤمنين (ع) بتجهيزه، واجتمع المتآمرون في سقيفة بني ساعدة وتمت البيعة لأبي بكر والنبي (ص) لمّا يُدفن بعد، ففاجأ الأمر بعض المُخلصين، ولم يجد الإمام علي (ع) للوقوف في وجه المؤامرة، إذ بعد اعتراضه على الأمر لم يجد المطلوب من الأنصار، فسكت، وعبّر عن ذلك بقوله: وَطَفِقْتُ أَرْتَئِي بَيْنَ أَنْ أَصُولَ بِيَدٍ جَذَّاءَ أَوْ أَصْبِرَ عَلَى طَخْيَةٍ عَمْيَاءَ يَهْرَمُ فِيهَا الْكَبِيرُ وَيَشِيبُ فِيهَا الصَّغِيرُ وَيَكْدَحُ فِيهَا مُؤْمِنٌ حَتَّى يَلْقَى رَبَّه ُ. فَرَأَيْتُ أَنَّ الصَّبْرَ عَلَى هَاتَا أَحْجَى فَصَبَرْتُ وَفِي الْعَيْنِ قَذًى وَفِي الْحَلْقِ شَجًا .
فأخرج الإمام (ع) مُجبراً على البيعة وكان همّه سلامة الدين والإبقاء على الشهادتين، وكانت كلمته المشهورة: لأسالمنّ ما سلمت أمور المسلمين ولم يكن بذلك جور إلاّ عليّ خاصة .
لقد تغلّبت إرادة المنافقين والحاسدين والحاقدين على إرادة الحق والخط الإسلامي المحمّدي الأصيل، حتى وصل الأمر لبني أمية الذين لم يسلم جدّهم إلاّ خوفاً من السيف، ولم يكن تظاهرهم بالإسلام إلاّ من أجل الحكم، ولولا ثبات فئة على ولاية يوم الغدير من سلمان الفارسي وأبي ذر وأفراداً معهم إلى يومنا هذا من المؤمنين بالولاية الحقّة وأن الأرض لا تخلو من قائمٍ لله بحجّة لما بقي للإسلام اسم ولا للقرآن رسم .
من هؤلاء الثابتين على خط الولاية الإمام السيد موسى الصدر الذي وعى الغدير وعياً صحيحاً، وفهمه أنه الثابت على الخط الإسلامي الصحيح الذي هو دين الرحمة والمحبة والتواصل مستنيراً بقول أمير المؤمنين (ع): الناس صنفان إما أخٌ لك في الدين، أو نظيرٌ لك في الخلق . فحمل الإمام الصدر الأمانة وعمل على ترسيخ المفاهيم الإسلامية قولاً وعملاً، قاوم الحرمان وعارض الحاكم الظالم ورفض الطائفية، وعمل على أن يكون لبنان وطناً نهائياً لكلّ أبنائه وطوائفه، ووقف في وجه مشاريع الشيطان الأكبر [أمريكا]، ودعا للقضاء على الشر المُطلق [إسرائيل] الذين بدأوا مؤامراتهم لتقسيم المنطقة إلى دويلات، تمهيداً لتحقيق حلم الإسرائيليين بإسرائيل الكبرى، لتتم سيطرتهم على المنطقة وخيراتها وتشريد شعوبها الذين يرفضون مخططاتهم، فعملوا على جريمة إخفاء الإمام الصدر مقدّمة لتنفيذ مشروعهم القائم على دولة إيران الشاه وتركيا العلمانية والكيان الصهيوني، لكنّهم فوجئوا بسقوط دولة الشاه، فانشغلوا بمحاولة إسقاط الجمهورية الإسلامية التي احتضنت خط الإمام الصدر، واستطاعت المقاومة أن تقضي على الاحتلال الصهيوني وتُسقط مشاريعهم، فالمقاومة هي الأمل في المضي على خط الإمام الصدر لمقاومة الحرمان الذي حاربه الإمام الصدر، خاصة الفساد الذي انطلق من بداية تنفيذ اتفاق الطائف، الذي حوّل القائمون عليه الدولة إلى مزرعة يتقاسمون وظائفها بالاستنساب والمحسوبات، وكذلك المشاريع بما تشتهي أنفسهم فصاروا وأزلامهم سكّان قصور ومتموّلين كباراً، فما أحوجنا لصوت الإمام الصدر الذي هدّد باحتلال القصور لصالح المحرومين والمستضعفين الذين يفوق استضعافهم وحرمانهم ما كان في أيام الإمام المُغيّب، إذْ أنّ الفساد ضرب كل القطاعات والمصالح وكل الصعد الصحية والاجتماعية والخدماتية والمناخية، فصار التعليم الرسمي ضعيفاً؛ خاصة على المستوى الجامعي، فتُهمل الجامعة اللبنانية لإنعاش الجامعات الخاصة، لأنهم صاروا أصحاب جامعات ومدارس ومستشفيات ومرامل وكسارات، فعلى المؤمنين بخط الإمام الصدر والرسالات الدينية والإنسانية أن يواجهوا هذا الحال ويُغيّروه، قبل أن يسقط البلد على الجميع ” إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ ” .
[وَآخِرُ دَعْوَانَا أَنِ الحمدُ للهِ رَبِّ العَالمِينَ وَصَلِّ اللّهُمَّ عَلَى ُمحمّدٍ وَآلِهِ الطَّاهِرينَ]تصوير:رامي أمين