لم يعد مقبولا أن تظل السلاحف البحرية دون رعاية من ذوي الخبرة والاختصاص، ففي ذلك تقصير لا يمكن أن يستمر كحالة دائمة، ما يتطلب حدا أدنى من الاهتمام عبر توفير عيادة وطبيب مختص وأدوية وخلافه، وفق الأطر القانونية المتاحة بين وزارات ومؤسسات الدولة المعنية، خصوصا وأنه غالبا ما نواجه حالات لسلاحف تعرضت للاعتداء عرضا أو عن قصد، ولا يكفي أن نحب هذه الكائنات، فالمطلوب ترجمة هذا الحب بتوفير سبل الرعاية الصحيحة، وكي لا نفاجأ في كل مرة ونواجه صعوبات إدارية ولوجستية وصحية.
هذا ما واجهنا في Green Area الدولية قبل يومين، عندما عثر الشابان علي زعتر وربيع فران على سلحفاة بحرية مصابة بجرح بليغ في رأسها،في عرض البحر مقابل منطقة “النبي اسماعيل” في مدينة صور، وواجهتنا العديد من الصعوبات في محاولة إنقاذها، إلا أن تضافر الجهود والدعم الذي وفره رئيس بلدية صور المهندس حسن دبوق والعديد من الناشطين والصيادين وعمال البلدية جاء ليشكل علامة فارقة في تكريس مثل هذا التعاون، بعدما واجهتنا صعوبات خلال الساعات الأولى من العثور عليها.
ضربة مباشرة على الرأس
وفي التفاصيل، أشار فران إلى أن السلحفاة تلقت ضربة قوية على رأسها وبدا حبل عالق بها وصنارة في منطقة البطن، ولفت في فيديو مباشر على موقع “فيسبوك” إلى أنه ورفيقه زعتر بانتظار أن يحضر من جانب البلدية من يتسلمها، في هذه الأثناء تلقينا اتصالا من رئيس “جمعية الحفاظ على البيئة” أحمد فرج، وطلب منا باسم بلدية المساعدة في إنقاذها نظرا لتجاربنا السابقة في متابعة وإنقاذ حالات مشابهة.
لحظة وصولنا إلى ميناء صور، كان قد تجمهر عدد من المواطنين حول سيارة البلدية حيث وضعت السلحفاة، وكان قد وصل إلى المكان عضو بلدية صور صلاح صبراوي والغواص يوسف الجندي من “المركز اللبناني للغوص” وعناصر من شرطة البلدية وناشطون عرضوا المساعدة، وبعد معاينة السلحفاة بدا واضحا انها تلقت ضربة مباشرة على الرأس ما خلف كسورا وشقا كبيرا بعمق كبير، وكانت في حالة إعياء شديد.
وزارة الزراعة
وبالتواصل مع الطبيب البيطري من مديرية الثروة الحيوانية في وزارة الزراعة الدكتور محمد سكرية، تم إعطاء السلحفاة الأدوية اللازمة والإسعافات الأولية الضرورية، وكان لا بد من تأمين مكان ملائم لمتابعة وضعها، خصوصا وأن حالتها بدت صعبة لدرجة أننا لم نتوقع نجاتها، فمثل هذه الحالات تحتاج لإجراء صور شعاعية ضرورية لتشخيص طبي دقيق، وعلما أنه واضحا أنها بحاجة لعملية جراحية طارئة لم يتوفر في لبنان إلى اليوم مستلزمات إجرائها من مركز متخصص ومعدات وكادر طبي.
المركز اللبناني للغوص
وفي هذا السياق، لم يوفر الجندي من “المركز اللبناني للغوص” أي جهد في مواكبة عملية الإنقاذ، ومن ثم تأمين المكان المناسب لمبيتها بالتنسيق مع الجهاز الأمني المسؤول عن المرفأ بعد أن حل الظلام في مرفأ صور التجاري، في حوض خال من المراكب، وفقا لما تقتضيه حالتها لجهة إبقائها بعيدا من أي نشاط بشري، وكي تبقى في المياه ضمن بيئتها الحيوية، ريثما نوفر لها مكانا آخر.
وكان لافتا للانتباه أثناء عملية إدخالها إلى المرفأ وإنزالها في الحوض ما أبداه شبان من المدينة من تعاطف واهتمام بالسلحفاة، وتساعد الجميع، ومن بينهم عناصر الانقاذ البحري في الدفاع المدني الذين أنزلوها إلى الحوض.
خلافا لكل التوقعات، وما أبديناه مع الطبيب المعالج من مخاوف، وخصوصا أنه لنا في Green Area الدولية تجربة مشابهة مع “السلحفاة لاكي” التي تلقت ضربة على رأسها وتطلب شفاؤها وقتا طويلا، فكان وفق الاحتمالات انها قد لا تعاود الغوص تحت الماء، وقد تتطلب مراقبة طبية وعلاج طويل لكنها ابهرتنا وهي تندفع عميقا في المياه لتعود وترتفع وتعوم على السطح.
وكان لا بد من مغادرتنا وتركها في الحوض وحيدة، إلا أن الشبان آثروا السهر معها ومراقبتها.
رئيس بلدية صور
بدوره، رئيس بلدية صور ورئيس محمية صور الشاطئية المهندس حسن دبوق تابع الحادثة، وأكد على ضرورة تكاتف الجهود والتعاون كفريق واحد، كل وفقا لخبرة كل فرد بالاستناد إلى خبراته السابقة، ووضع بتصرفنا كل الإمكانيات المتاحة.
صباح اليوم الثاني
لم يكن الليل ليمضي عند جميع من واكب إنقاذ السلحفاة دون التفكير بها، وما إذا كانت ستنجو من خطر الساعات الاولى بعد الاصابة، وما إن حل الصباح توجهنا إلى الحوض، وكان من دواعي سرورنا أن وجدنا ذكر السلحفاة ضخمة الرأس “كاريتا كاريتا” أقوى من الإصابة في الرأس.
سبحت، غاصت، صعدت، تنفست وعاودت السباحة من جديد، وكنا مذهولين من النتيجة، فتوجهنا مسرعين لتأمين مكان بديل بالقرب من المنطقة التي وجدت فيها مصابة، وكنا قد قررنا تأمين مساحة مسيجة لمتابعة علاجها بطريقة تعزلها عن المراكب والسباحبن، وعمدنا إلى استشارة مطلعين على عالم السلاحف البحرية لتأمين رعاية لها من خلال ما راكموه من خبرات.
في هذا السياق، عرضنا الحالة على صاحبة “البيت البرتقالي” والناشطة في حمى السلاحف في المنصوري منى خليل التي أبدت اهتماما واستعداد للمساعدة، وواكبت الأحداث، إلا أنها استحسنت إطلاق السلحفاة بعد أن تأكدت أنها قادرة على الغوص، وأن مياه البحر كفيلة بمداواة جراحها.
عند الظهر، فوجئنا بأن السلحفاة لم تمهلنا لتبرأ من جرحها وإصابتها، وغادرت إلى عالمها الرحب، وتأكدنا عبر زورق تابع لبلدية صور أنها مضت بسلام دون أن تنتظر منا وداعا نعتذر خلاله عما تعرضت له من تعد على بيئتها.
ومن خلال هذه التجربة، وتجارب سابقة لنا في “جمعية Green Area الدولية”، نرى أنه بات ملحا توفير سبل معالجة سلاحف البحر عبر تأمين مراكز طبية متخصصة مع كوادر فنية وتمرين فريق إنقاذ قادر على تقديم الرعاية للسلاحف المصابة.
بدورنا في “غرين ايريا” نثني على ما قدمه الجميع من تعاون وتعاطف مع هذه الحالة، ونشكر ثقة رئيس محمية صور الشاطئية ورئيس بلدية صور.
فاديا جمعة
تصوير رامي أمين