الرئيسية / ثقافة عامة / مولد النّور ولادة أمّة

مولد النّور ولادة أمّة

هي ذكرى ولادة أمّة. إنّها ذكرى ولادة رسول الله محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم).
ولِمَ لا أكتب عن نبيّ المسلمين أنا المسيحيّ المارونيّ؟
سأكتب عن صاحب العيد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بحبر الموضوعيّة والتّجرّد من التّعصّب والطّائفيّة، بمنأى عن الأفكار السّوداويّة والأحقاد والضّغائن، وبعيدًا كلّ البعد عن المجاملة والمسايرة.
سأكتب عن نبيّ المسلمين (صلوات الله عليه)، وأنا واثق بأنّي لن أُعجِبَ المسيحيّين، ولن أُُرضِيَ المسلمين، وسيكون كلامي موضع شكٍّ واتّهامٍ وتخوينٍ، لكنّني سأكتب للحقّ، والإنسانيّة، والتّاريخ.
“إنّ الرّسولَ لنورٌ يُستَضاءُ بِهِ مُهَنَّدٌ من سُيوفِ اللهِ مَسلولُ”
حقًّا، إنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لنورٌ يستضاء به، ولسيفٌ من سيوف الله مسلولٌ. فهو سيفُ الحقّ في الكلمة، ونورُ المعرفة في ظلمة الجهل والحقد والتّخلّف.
ولا يمكننا أن نفيَ رسول الله (صلوات الله عليه) حقّه في الكلام، وهو الّذي حمل الرّسالة، وامتثل لأمر ربّه، فغيّر مجرى التّاريخ، وأخرج البشريّةَ من ظلمة الجاهليّة وعصبيّة القبليّة إلى نور المعرفة والإيمان، وأنقذ الإنسانيّةَ من شرور الهوى ونزعات الشّيطان، وحرّر الفرد من الانصياع إلى نفسه الأمّارة بالسّوء، فاستحقّ أن يكون نورًا يستضاء به.
إنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) هو الرّحمة المُهداة والنّعمة المُسداة، أُرسلَ رحمةً للعالمين {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}، أُرسلَ للنّاس كافّةً على اختلاف أجناسهم، وألوانهم، وشعوبهم، قبائلهم. هو رحمة للجميع، ورسالته للجميع، ودين الإسلام يسع الجميع، وتنصهر فيه جميع القبائل والشّعوب والأجناس، متساويةً بين يَدَيِ الله، لا تتفاوت إلّا بالإيمان والتّقوى {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ}.
لقد أنعم الله (عزّ وجلّ) على البشريّة جمعاء بمحمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فأدّبه أحسن التّأديب “أَدَّبَني رَبّي فَأَحْسَنَ تَأْديبي”، وأنزل عليه الكتاب والحكمة، وعلّمه ما لم يكن يعلم، واصطفاه لهداية المؤمنين، فبعثه رسولًا فيهم.
إنّ احتفالنا بذكرى ولادة رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) هو احتفالٌ بتكريم العظمة الإنسانيّة في ذُراها وذُؤاباتها. فقد كان (صلوات الله عليه) عظيمًا في مولده، وعظيمًا في حياته، ورسالته، وسياسته، وإدارته، وحديثه، وبلاغته، وعظيمًا في رئاسته وقيادته، وعظيمًا وهو زوجٌ وأبٌ وجدٌّ.
لقد كان رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) صاحب روحانيّة عالية في ذِكره، وشكره، وحسن عبادته لربّه، وفي زهده في دنيا النّاس، وعيشه فيها بشعور غريبٍ وعابر سبيلٍ، من دون أن يُغفِلَ الجوانب الأخرى من الحياة بما تفرضه من أعباء، وتمثّله من مطالب، فلم ينسَ أنّه إنسان، وزوج، وأب، وجدّ، وقريب، وجار، وصديق، ورئيس، وقائد، وأنّ كلّ علاقة من هذه العلاقات لها حقوقها وعليها واجباتها.
امتاز رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بصفاته الخُلُقيّة مثل طول حلمه، وقوّة احتماله، وعفوه، وجوده، وكرمه، وشجاعته، ونجدته، وحيائه، وإغضائه، وحسن عشرته، وشفقته، ورأفته، ووفائه، وحسن عهده، وتواضعه، وعدله، وأمانته، ووقاره، ومروءته.
لقد كان (صلوات الله عليه) يرضى كما يرضى النّاس، ويغضب كما يغضبون، ويفرح كما يفرحون، ويحزن كما يحزنون، لكنّه كان إذا رَضِيَ لا يُدخِلُهُ رضاه في باطل، وإذا غضب لا يُخرِجُهُ غضبُه عن الحقّ، وإذا فرح لا يفرح لغير الحقّ، وإذا حزن لا يُخرِجُهُ حزنُه عن الصّبر والرّضا، وكان يشارك أصحابه في مسرّاتهم من دون أن يُخرِجُهُ ذلك عن الوقار، ويُضحكه بعض أصحابه فيضحك، ويمزح أحيانًا، ولكنّه كان لا يقول إلّا الحقّ.
قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) :”أوصاني ربّي بسبعٍ أوصيكم بها: أوصاني بالإخلاص في السّرّ والعلانيّة، والعدل في الرّضا والغضب، والقصد في الغنى والفقر، وأن أعفوَ عمَّنْ ظلمني، وأُعطِيَ مَنْ حرمَني، وأَصِلَ مَنْ قطعني، وأن يكون صمتي فكرًا، ونطقي ذِكرًا، ونظري عِبَرًا”. فقد أوصى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بحبّ المساكين والدّنوّ منهم، وقول الحقّ، وتقوى الله، والسّمع، والطّاعة، واتّقاء المحارم، والإحسان إلى النّاس، والتّعامل معهم برحمة ومحبّة، ونشر لواء العدل والسّلام، والأمر بالمعروف، والنّهي عن المنكر. لذلك، فإنّ ما نراه، في أيّامنا هذه، من أعمال شيطانيّة يقوم بها بعض المتأسلمين تحت راية “لا إله إلّا الله”، لا يمثّل الإسلام بأيّ شكل من الأشكال. فالفكر الوهّابيّ الّذي يحمله هؤلاء، يُسيء إلى دين الله ورسوله، ويُشوّه رسالة الدّين الحنيف، رسالة المحبّة والعدل والسّلام.
إن الإسلام لم يأتِ لذبح النّاس، وقتل الأبرياء، وتفجير الكنائس، وسفك الدّماء، وتدمير القرى والمدن، وسبي النّساء.
إنّ الإسلام رسالة حياة وسلام، لا تدعو إلى قطع الرّؤوس، وإشعال الفتن، والاقتتال، وانتهاك الأعراض، وهدم البيوت، وأكل القلوب والأكباد.
إنّ الإسلام لا يتعارض مع المسيحيّة بشيء، ولو حاول البعض خلق نقاط اختلاف تخدم مصالحهم الخاصّة، فرسالة رسول الله (صلوات الله عليه) هي نفسها رسالة السّيّد المسيح (عليه السّلام) الدّاعية إلى المحبّة، والتّسامح، والرّحمة، واحترام كرامة الإنسان وحقوقه.
إنّ الأخلاق المحمّديّة الحقيقيّة هي أخلاق الإمام الحسين (عليه السّلام) الّذي ضحّى بنفسه، وبأهل بيته، وأبنائه، وأصحابه، وأنصاره، من أجل إحقاق الحقّ، وإزهاق الباطل، ونصرة المظلومين، وحفظ الدّين، واحترام الإنسان، وتثبيت قواعد التّوحيد.
إنّ الأخلاق المحمّديّة الحقيقيّة هي أخلاق الإمام القائد السّيّد موسى الصّدر (أعاده الله ورفيقيه) الّذي دعا إلى المحبّة، والوحدة، والتّسامح، والانفتاح، والتّعايش، والتّحاور، وإلى مكافحة الفساد، وتفاعل الحضارات الإنسانيّة، ونصرة المظلومين والمحرومين والمستضعفين.
إنّ الأخلاقَ المحمّديّة الحقيقيّة هي أخلاقُ الرّجال الّذين {صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَنْ يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا}، وأخلاقُ النّساء اللّواتي يجاهدنَ من أجل تحصين أسرهنّ، وبناء مجتمعاتهنّ، وحماية أوطانهنّ، ومن أجل مستقبل باهر للأجيال القادمة.
إنّ ذكرى ولادة رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) هي ذكرى ولادة {خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ}، وفرصة للتّعريف برسالته العظيمة الخالدة، والتّعمّق بها، واستنباط الدّروس والعبر منها.
إنّ ذكرى ولادة رسول الله (صلوات الله عليه) هي مناسبة لنهتدي بالرّسول الكريم، ونستضيء بنوره في ظلمات الحياة، ونتخلّق بأخلاقه، علّنا نستردّ لأمّتِنا العربيّة عزّتَها المفقودة، والمكانةَ الّتي تليقُ بها بين الأمم.

سركيس الشّيخا الدّويهي

شاهد أيضاً

ندعوا أهل الخير للمساهمة في إفطار مئة صائم يومياً

بمناسبة حلول شهر رمضان المبارك، يطلق “مركز مصان” لذوي الإحتياجات الخاصّة مشروعه الإنسانيّ “مائدة الرّحمٰن” …

Open chat
أهلاً وسهلاً بكم