أتساءلُ أحيانًا إنْ كنّا نقومُ بواجبِنا على أحسنِ وجهٍ تُجاهَ المظلومينَ والمحرومينَ والمُسْتَضْعَفينَ في هذا العالمِ القاسي والباردِ والقاتلِ، وإنْ كنّا حقًّا أعضاءَ فاعلينَ في مجتمعاتِنا، أو أنّنا نحاسٌ يَطِنُّ وصنوجٌ تَرِنُّ.
أتمنّى أن تكونَ كلماتُنا ومواقفُنا كحبّاتِ المطرِ الّتي تتساقطُ على أرضٍ قاحلةٍ، فتُنْبِتُ عُشبًا أخضرَ وزهرًا وياسمين، وتُحيلُها جنّةً غنّاء.
مِنْ هنا، كانت مقالتي هذه الّتي سأتناولُ فيها دورَ النُّخَبِ الثّقافيّةِ والإعلاميّةِ ورسالتَها خلالَ الحروبِ والصّراعاتِ والانقساماتِ الّتي يشهدُها عالمُنا العربيّ، وسأحاولُ الإجابةَ عن السّؤالَيْنِ التّاليَيْنِ: هل تؤدّي هذه النُّخَبُ دورَها التّنويريَّ بشكلٍ فعّالٍ؟ وبمَ هي مطالبةٌ اليومَ لإحداثِ التّغييرِ في مجتمعاتِنا العربيّةِ؟
تنقسمُ النّخبُ الثّقافيّةُ والإعلاميّةُ في وطنِنا العربيِّ إلى أربعِ فئاتٍ:
نُخبةٌ مُسَخَّرَةٌ لخدمةِ السّياسةِ والأنظمةِ الحاكمةِ، تَرى أنّ القُرْبَ من السّلطةِ يُؤَمّنُ لها الحمايةَ من القمعِ، والقتلِ، والسَّجْنِ، والاضطهادِ، والإقصاءِ، فتتنازلُ عن دورِها التّنويريِّ، وتُصبِحُ رُكنًا من أركانِ النّظامِ، تُدافعُ عن أُطروحاتِهِ، وتُرَوِّجُ لأفكارِهِ، وتدعو النّاسَ إلى تأييدِهِ.
ونخبةٌ حُرّةٌ متحرِّرَةٌ، تُعَبِّرُعن آرائِها وقناعاتِها بحرّيّةٍ مطلقةٍ، وتنشُرُ أفكارَها، المؤيّدةَ للسّلطة السّياسيّةِ أو المعارِضَةَ لها، والمنسجمةَ مع توجُّهاتِ المؤسّسةِ الإعلاميّةِ الّتي تعملُ فيها أو المتناقضَةَ معها، بلا خوفٍ من دَفْعِ ثمنِ نشرِ هذه الأفكارِ، أو التّعبيرِ عن آرائِها، والتّمسُّكِ بمبادئِها.
ونخبةٌ مُسْتَقْطَبَةٌ تكونُ بمثابةِ وسائلَ مُسَوِّقَةٍ لأفكارِ المُستَبِدّينَ والفاسدينَ، تَستخدمُ أقلامَها وألسنتَها، لتضليلِ الرّأيِ العامِّ، وتخديرِ عقولِهِم، وتزييفِ وَعْيِهِم، والتّرويجِ لإنجازاتٍ من صُنْعِ الخيالِ.
ونخبةٌ محايِدَةٌ تنأى بنفسِها عن الاصطدامِ بالسّلطةِ، وتعملُ بمبدأ: “عند تغييرِ الدّولِ، اِحفَظْ رأسَكَ”.
وبما أنّ النّخبةَ المثقَّفَةَ تُؤثّرُ في العقولِ والسّلوكِ بشكلٍ كبيرٍ، فهي محرِّكُ التّغييرِ في المجتمعاتِ كافَّةً، خصوصًا في عصرِ التّقدّمِ الهائلِ في تكنولوجيا الاتّصال، ومواقعِ التّواصلِ الاجتماعيِّ.
من هنا تَبرُزُ الحاجةُ في عالمِنا العربيِّ إلى نخبةٍ مثقَّفَةٍ واعيةٍ حرّةٍ متحرِّرَةٍ، تُؤثّرُ إيجابًا في الشّعوبِ العربيّةِ، وتُساهمُ في تكوينِ رأيٍ عامٍّ عربيٍّ واعٍ ومسؤولٍ، قادرٍ على التّصدّي لقوى التّدميرِ الإنسانيِّ والثّقافيِّ والقِيَمِيِّ والأخلاقيِّ الّذي تتعرّضُ لهُ مجتمعاتُنا العربيّةُ جرّاءَ الصّراعاتِ والحروبِ.
ومع تفشّي الفسادِ السّياسيِّ والإداريِّ، وحِرمانِ بعضِ الفئاتِ الاجتماعيّةِ من حقوقِها البديهيّةِ في وطنِنا العربيِّ، يبرُزُ دَوْرُ النّخبِ الثّقافيّةِ والإعلاميّةِ الفاعلة، كضرورةٍ قُصْوى، في الكشفِ عن مواقعِ الفسادِ المُسْتَشْري، وتعريةِ الفاسدينَ أمامَ الرّأيِ العامِّ، وفي تحديدِ وتحليلِ وتفسيرِ أسبابِ الفسادِ والنّتائجِ المُتَرَتِّبَةِ عنه بطريقةٍ علميّةٍ موضوعيّةٍ، والبحثِ عن الحلولِ النّاجعةِ، وفي نشرِ القيمِ الثّفافيّةِ والأخلاقيّةِ والوطنيّةِ، لتحصينِ المجتمعاتِ وصَوْنِها من الانحرافِ عن الصّراطِ المستقيمِ، والانجرافِ مع تيّاراتِ الفسادِ والعنفِ والإرهاب.
ففي بعضِ مناطقِ الاضطرابِ السّياسيِّ، أو الحَراكِ السّياسيِّ العنيفِ، حيثُ الصّراعاتِ والحروبِ، تدخُلُ النُّخَبُ الثّقافيّةُ والإعلاميّةُ إلى منطقةِ السّياسيّينَ، وتُزاحمُهُم في التّأثيرِ على مسارِ الأحداثِ، وعلى قناعةِ الرّأيِ العامِّ، ما يُؤَدّي، للأسفِ الشّديدِ، في الأنظمةِ الدّيكتاتوريّةِ، وتاريخُنا حافلٌ بالأمثلةِ، إلى إقصاءِ هؤلاءِ النُّخَبِ، أو التّخلُّصِ منهُم، لما يُشَكّلونَ من تهديدٍ لمصالحِ هذه الأنظمةِ.
إزاءَ هذا المشهدِ المأساويِّ، نجدُ بصيصَ أملٍ مُستَمَدٍّ من تاريخِ بعضِ الشّعوبِ وتجارِبِها السّابقةِ، حيثُ نجحتِ النُّخَبُ الثّقافيّةُ من أدباءَ، وشعراءَ، وكتّابٍ، وفلاسفةٍ، ومفكِّرينَ، وفنّانينَ، في التّأثيرِ على النّاسِ، وتكوينِ رأيٍ عامٍّ يتلاقى مع أفكارِهِم، أو يتبنّاها ويعملُ بها، وفي الضّغطِ على الطَّبَقَةِ الحاكمةِ، وإحداثِ التّغييرِ المَطْلوبِ، انطلاقًا من أفكارِهِمِ التّنويريّةِ الّتي شكّلَتْ نَواةَ الإصلاحِ، والتّغييرِ، والنّهضةِ في بلدانِهِم.
وفي زمنِ الأزَماتِ السّياسيّةِ والاجتماعيّةِ والاقتصاديّةِ الّتى يشهدُها وطنُنا العربيُّ، وزمنِ انفلاتِ الغرائزِ الطّائفيّةِ والمذهبيّةِ والقبليّةِ على امتدادِ مِنطقتِنا العربيّةِ، وزمنِ العولمةِ وثوراتِ التّواصلِ والاتّصالِ والإعلامِ والإعلانِ، تَبرُزُ الحاجةُ المُلِحَّةُ إلى نُخَبٍ ثقافيّةٍ وإعلاميّةٍ تدعو إلى الانفتاحِ على الآخَرِ واحترامِ خصوصيّاتِهِ، ورفضِ كلِّ أشكالِ الحروبِ والتّدخُّلِ في شؤونِ الدّولِ الأُخرى، وإلى تغليبِ الحلولِ الدّيبلوماسيّةِ والسِّلميَّةِ، ونشرِ القيمِ الثّقافيّةِ والأخلاقيّةِ، وفي طليعتِها قيمُ المواطَنَةِ، والتّسامُحِ، والوحدةِ الوطنيّةِ، واحترامِ التّعدّديّةِ والتّنوّعِ.
إنّ النُّخَبَ الثّقافيّةَ والإعلاميّةَ العربيّةَ مطالَبَةٌ بإعادة رَصِّ صفوفِها، لتُشَكِّلَ كُتلةً صُلبَةً قادرةً على إخمادِ الفتنِ والحروبِ، وبناءِ دولٍ ديمقراطيّةٍ على أُسُسٍ سِلميّةٍ، وللقضاءِ على وحشِ التّطرُّفِ الدّينيِّ والسّياسيِّ، ونشرِ ثقافةِ التّسامحِ، تعزيزًا للثّقةِ المتبادَلَةِ بين العربِ أنفسِهِم، والتّضامُنِ السّياسيِّ، والتّكامُلِ الاقتصاديِّ.
يقولُ السّياسيُّ البريطانيُّ وينستون تشرشل: “في وقتِ الحربِ تكونُ الحقيقةُ ثمينةً جدًّا، الأمرُ الّذي يتطلّبُ حمايتَها بحرَسٍ شخصيٍّ من الأكاذيبِ”، ويُقالُ إنَّ الحربَ أوّلُها كلامٌ، ففي أوقاتِ الحروبِ تتداخلُ خيوطُ الإعلامِ، مع الدّعايةِ، والتّضليلِ، والتّعتيمِ، والحربِ النّفسيّةِ، والتّلاعُبِ بالعقولِ، وتضيعُ الحقيقةُ في دهاليزِ المصالحِ والتّبعيّةِ.
وهنا، يبرزُ دَوْرُ النُّخَبِ الإعلاميّةِ من مديري أخبارٍ، ورؤساءِ تحريرٍ، وإعلاميّينَ، ليكونوا حرّاسًا شخصيّينَ للحقيقةِ، من خلالِ احترامِ الضّوابطِ والمعاييرِ المِهْنيّةِ، ومواثيق وأخلاقيّاتِ العملِ الإعلاميِّ.
إنّ الإعلاميّينَ، على حدٍّ سَواء، مطالَبونَ بتحييدِ مهنةِ الإعلامِ عن المصالحِ والأجنداتِ المشبوهةِ، وعن تجّارِ اللَّعِبِ على جراحاتِ النّاسِ وآهاتِهِم من أجلِ تجييرِها لمصالحَ فئويّةٍ ضيّقةٍ، وبالتّمسُّكِ بالحقيقةِ، ولا شيءَ سوى الحقيقةِ، وبالموضوعيّةِ والتّجرُّدِ، كي لا تبقى الحقيقةُ الضّحيّةَ الأولى للحروبِ والأزَماتِ والصّراعاتِ.
وهنا، يبرُزُ دورُ النُّخَبِ الإعلاميّةِ العربيّةِ الفاعلةِ والمؤثّرةِ في الرّأيِ العامِّ، في حراسةِ الحقيقةِ من المتزَلِّفينَ والمُتَمَلِّقينَ والمَزَيِّفينَ، وفي قولِ الحقِّ مهما كلّفَ من تضحياتٍ جسيمةٍ، فالسّاكتُ عن الحقِّ شيطانٌ أخرسُ، وفي تسليطِ الضّوءِ على قضايا النّاسِ ومعاناتِهِم وأوجاعِهِم، شرطَ احترامِ كرامتِهِم ومشاعرِهِم، وكرامةِ الأمواتِ والشّهداءِ والجرحى، وعدمِ اعتبارِهِم مادّةً إعلاميّةً أو إعلانيّةً دَسِمَةً لجذبِ المشاهدينَ، كما يبرُزُ دورُهُم في تظهيرِ المشكلاتِ الاجتماعيّةِ، مثل الفقرِ، والجوعِ، وتفشّي الأمراض، والحرمانِ، والأُمِّيَّةِ، واتّساعِ الهوّةِ بين الفئاتِ الاجتماعيّةِ، والإتجارِ بالبشرِ، وفي إيصالِ صوتِ المظلومينَ والمحرومينَ والمُسْتَضْعَفينَ في عالمِنا العربيّ.
إنّ دورَ النُّخَبِ الثّقافيّةِ والإعلاميّةِ هو إظهارُ حقيقةِ المشكلاتِ الاجتماعيّةِ، وتقديمُ الحلولِ لها، أو حضُّ النّاسِ على البحثِ عن الحلولِ، وتبنّي الأفكارِ الإصلاحيّةِ والتّغييريّةِ والنّهضويّةِ الّتي تُساهِمُ في تطويرِ وتقدُّمِ مجتمعاتِنا، وإصلاحِ ما أفسدَتْهُ الحروبُ والصّراعاتُ والانقساماتُ الدّاخليّةُ في عالمِنا العربيِّ.
إنَّ النّخَبَ الثّقافيّةَ والإعلاميّةَ هي الفئةُ الّتي يُعوَّلُ عليها اليوم، لاستعادةِ الدّورِ الرّياديِّ لشعوبِنا العربيّةِ، واستردادِ المكانةِ الّتي تَليقُ بأمّتِنا العربيّةِ بين الأممِ.
فهل تَعي هذه النُّخَبُ المسؤوليّاتِ المُلقاةَ على عاتِقِها، وتستيقظُ من سُباتِها العميق؟!
سركيس الشّيخا الدّويهي