لو بقيتُ متمسِّكًا بالفكرِ السّياسيِّ الّذي نشأتُ عليهِ، ووَلَجْتُ أوساطَهُ، وجالَسْتُ أهلَهُ، لَكُنْتُ الآنَ مِمَّنْ يُعمي بَصيرتَهم خوفٌ من المقاومةِ على كِيانِ الدّولةِ اللّبنانيّةِ، ويَمنعُهم حقدُهم الأعمى وغباؤُهم من التّحليلِ المنطقيِّ، والاعترافِ بالحقيقةِ، والتّمييزِ بين الحقِّ والباطلِ.
نعم، لقد كانت المقاومةُ، بالنّسبةِ إليَّ، وحشًا كاسرًا يُهدّدُ وُجودي، كما ينظرُ إليها عددٌ كبيرٌ مِمَّنْ كانوا أصدقاءَ الأمس، وباتوا يعتبرونَني اليومَ عدوَّهم اللّدود.
نعم، أنا عدوُّ هؤلاء بكلِّ فخرٍ واعتزازٍ. فأنْ أكونَ عدوًّا لهؤلاءِ المنبطحينَ الأذلّاءِ خيرٌ لي مِنْ أنْ أكونَ صديقًا لهم في حظيرةِ النّعاجِ الّتي لا يزالونَ متمسّكينَ بها وبرعاتِها الحاقدينَ.
كم احتجتُ إلى وقتٍ لأعيَ الحقيقةَ، وأدركَها قبلَ فواتِ الأوانِ! وكم أحتاجُ اليومَ إلى الاعتذارِ من عقلي، لأنّني جعلتُه يُصدّقُ الأصواتَ الكاذبةَ والمخادعَةَ!
تعرّفتُ إلى المقاومةِ المقدّسةِ وأهلِها الشّرفاءِ، فامّحَتْ من ذاكرتي كلُّ الأفكارِ المشوَّهةِ والمفبركةِ عن المقاومةِ ورجالاتِها، ونلتُ نعمةَ التّحوّلِ إلى داعمٍ للمقاومةِ وعاشقٍ لأهلِها.
كلُّ شبرٍ من أرضِ الجنوبِ هو شهيدٌ صدقَ ما عاهدَ اللهَ عليهِ، فقضى نحبَهُ، وما بدّلَ تبديلًا. وكلُّ راحةٍ نتمتّعُ بها هي بفضلِ رجالٍ ينتظرونَ، وما بدّلوا تبديلًا. وكلّ سلامٍ ننعمُ به هو بفضلِ ثباتِ المجاهدينَ الأبطالِ، ويقينِهم، وعزمِهم، وتضحياتِهم في سبيلِ اللهِ والوطن. وكلُّ فخرٍ نتغنّى به هو من بركاتِ المقاومةِ ونِعَمِ شهدائِها.
إنّ الأمانَ الّذي نشعرُ به كلّفَ المقاومةَ آلافَ الشّهداءِ الّذينَ أعاروا اللهَ جماجمَهم، وبذلوا دماءَهم الزّكيّةَ وأرواحَهم الطّاهرةَ في سبيلِ الوطنِ والحقِّ. نعم، هؤلاء “القتلى”، كما يسمّيهم البعضُ، هم سببُ الأمانِ الّذي نشعرُ بهِ، فالمقاومونَ مُجرِمونَ بحقِّ أنفسِهم، لأنّهم يُضَحّونَ بحياتِهم في سبيلِ شركاءَ في الوطنِ لا يستحقّونَ الحياةَ. والمقاومونَ مجرمونَ بحقِّنا جميعًا، لأنّهم يدفعونَ أرواحَهم ثمنَ أرضِهم، فيما نبيعُها نحنُ بثلاثينَ من الفضّةِ جهلًا منّا بقيمةِ الوطنِ.
عندما تعرّفتُ إلى المقاومةِ، اشتممتُ رائحةَ الكرامةِ، وشبعتُ عزّةً وفخرًا وكرامةً، وتظهّرتْ ليَ الوجوهُ الحقيقيّةُ للّذين يأتونَنا بثيابِ الحملانِ، وهم ذئابٌ خاطفةٌ، ويحاضرونَ عن الوطنيّةِ في المجالسِ العامّةِ، ويَبيعونَ الوطنَ في المكاتبِ الخاصّةِ ومكاتبِ السِّفاراتِ لمصالحَ شخصيّةٍ، وما أفصحَ العملاءَ والخَوَنَةَ وتجّارَ الهيكلِ عندما يُحاضرونَ عن الشّرفِ والوطنيّةِ!
إنَّ المقاومةَ لَوَحْشٌ كاسِرٌ في عَيْنَيْ مَنْ لم يشتمَّ عطرَ الكرامةِ في ثرى بلادي المبلّلِ بدماءِ شهدائِها، فاحذروها!
سركيس الشّيخا الدّويهي