Home / ثقافة عامة / “صديقي وعدني بعناقٍ أخير”

“صديقي وعدني بعناقٍ أخير”

غوى قصير

جمعَ محمّد كومة الحطب وأشعلَ النّار مناديًّا على أصدقائهِ: “هيا يا شباب السّهرة الآن قد اكتملت”. حضرَ الشباب محمّلين بالسّهرِ الذي سيطول حتّى ساعات الفجر الأولى. انشغل زين بهاتفهِ وبدت ابتسامته غريبة وكأنّه فتحَ قلبه على مصرعيهِ. تغامز رفاقهُ ضاحكين عندما ظهرت لمعة عينيه التي عكسها ضوء الهاتف. تهافتت عليهِ التعليقات المُضحكة التي لن ينجو منها وهو تحت تأثير الحبّ، فهو بالكادّ مخدّر بطُعمِ إحداهنَّ. سقطت فوق يدهِ حبّة فُستق كانت قد أصابته جرّاء إحدى رشقات أصدقائهِ. كُفّوا عن الضحك وإلاّ أبرحتكم ضربًا واحدًا تلو الآخر. قالها ممازحًا.
تآمرت عليهم درجة الحرارة المُنخفضة إلاّ أنّهم عاندوا الصقيع الذي لامس ملامحهم فارتدوا معاطف بزّاتهم السّميكة. كانت الأضواء المُنبعثة من بيوت النّاس المُقابلة للجبل تبدو كنجومٍ ساطعة تساقطت على أرضهم لتضيء عتم الأفق الممتد، ونسائم الليل ملأت صدورهم المُتعبة من لذّة الأرق. يا تُرى ما الذي يسكن خلف تلك الأضواء والشبابيك؟ سؤالٌ اخترق فكر محمّد الذي ما احتواه يوماً منزلٌ ثابت.
حضّر زين إبريق الشايّ وانشغل باقي الشباب بجمع الحطب كي يكفي ليلهم الطويل، ثمّ سُكبَ الشايّ في الأكواب فبدا لونه الخمريّ أكثر نضوجًا ولمعانًا في محضرِ الحطب المُشتعل.
بعد أن استسلم بعض الرّفاق لجفونهم المُتعبة، افترشوا الأرض النديّة ليجعلوا منها أسرّة دافئة لنُعاسهم. بقيَ محمّد جالسًا في مكانه فشاركهُ زين جلستهُ. هذه ليست المرّة الأولى التي يتناوب فيها محمّد وزين حراسة المكان من أي مجهول قد يواجههم. اتكئ زين على كتفِ صديقهِ وراح يبحث في ليله عن أسئلة حائرة أو لعلّه كان يبحث عنها، عن الطريقة التي ظهرت فيها وكأنّها طفلة رمت ببراءتها في جوف قلبه المتحيّر من شدّة تعلّقه بها. اهتز الهاتف في جيبه وكأنّها سمعت ندائه، فظهرت رسالتها على الشّاشة: “زين؟ ألم أقل لكَ من قبل أن أمّي تُعاقبني كلّما رأت هالاتي السوداء؟ وأنا أتحايل عليها بحجّة دراستي والسّهر حتّى وقتٍ متأخّر. ماذا لو علِمت بأنّك السبب؟ قُل لي كيف سأنجو؟ أنا لست خائفة من استجوابات أمّي المتكرّرة، بل أخاف أن أشتاقكَ إلى حدٍّ لا يطاق فألفظ اسمك في نومي وتسمعني أختي الصغيرة وتُعلمها بسرّنا وأنا أخاف كثيرًا من طلاقةِ لسانها. متى ستعود؟ ألم تقُل لي في لقاءنا الأخير بأنّك لن تتأخّر؟ حسنًا لن أكون فتاة لحوحة ولكنّك قلت بأنّك ستعود بعد ستّين يومًا، لِما كذبت عليّ وأنت تعلم بأنّ في تقويمي الشهري تتحوّل أيامي في غيابكَ إلى سنين؟ وها أنتَ قد غبت ستّين عامًا وأنا كبرت، كبرت جدًّا في غيابك. عُد أنا بانتظاركَ. حدّق زين في شاشة الهاتف مذهولًا من شدّة لهفتها التي أظهرتها في غيابه. وحدهُ الغياب قادرٌ على جعلنا أكثر نضوجًا وأقلّ صبرًا في آنٍ واحدٍ.
نظر محمّد إلى زين ضاحكًا وربّت على كتفه قائلًا: كلّمها وطمئنها، قُل لها بأنّك ستعود، حتمًا ستعود، كلّنا سنعود ولكن بطريقةٍ مختلفةٍ. رجفَ قلب زين بعد سماع الجملة الأخيرة التي انطلقت من فم محمّد مع ابتسامة يخاف زين أن يراها على ثغر صديقه كلّما تكلّم بمنطقِ العودة المحتوم. انسحب محمّد تكتيكيًّا تاركًا لصديقه مساحته الشخصيّة كي يستجمع جُرأته ليردّ برسالة لا تقلّ مستوى عن رسالتها، ليس تسابقاً بين حبيبين، بل هكذا يكون الحبّ في مراحله الأولى متوهّجًا ومندفعًا لكي نتخلّص من كميّة مشاعر زائدة عن الحدّ قد تودي بنا إلى نوبة اشتياق لا نشعر بعدها سوى بالهذيانِ.
غفى محمّد بعد صلاة الفجرِ قليلًا، كان باقي الرفاق قد استيقظوا واستعدّوا ليومهم الأخير على الجبهة، تساءلوا عن زين الذي غاب عن نواظرهم فقال أحدهم ضاحكًا: “بكون آخد شي زاوية ليبعت رسالة ع رواق، يا الله شو بيعمل فينا الحبّ”. بدأوا بتحضير فطورهم المعتاد وتقاسموا الأدوار، ولكنّ زين هو البارع الوحيد في تحضير الشايّ، ندهوا عليه أكثر من مرّة فلم يُسمع له لا صوتٌ ولا صدى. استيقظ محمّد على أصواتهم فزعًا وهو الذي رأى زين في حلمه يلوّح بيده مبتعدًا. تفرّقوا جميعهم للبحث عنهُ بعد أن طال غيابه أكثر من الّلازم. وأخيرًا لقد عثرتُ عليك، قالها محمّد صارخًا بصوتِ النَحيب وقد احتضنت شجرة الزّعرور جسد زين بعد أن أصابته شظايا لغمٍ أرضيّ من مخلّفات الحرب.
زين؟ أنتَ لا تستحق إلاَ الحياة! قُم وانهض يا رجل كفاكَ مُزاحًا، الفطور ينتظرنا، لم نحضّر الشايّ، ننتظرك كي تعدّه أنت. لما رحلت؟ لما أنت؟ قُم وانظر إلى هاتفك وابتسم، أظنّ بأنّ هناك رسالة تنتظرك. أنا من كان يجب عليه الرحيل، أنا يا زين وليسَ أنت. ألم تعدني بعناقٍ أخيرٍ؟ ألم تقل لي ليلة أمس بأنّك ستعانقني قبل أن نعود. وها أنت وحدك من عدت ولكن بطريقةٍ مختلفةٍ.
كتبَ زين في رسالتهِ الأخيرة: “لن أتأخّر، انتظريني عامًا كاملًا بعد، أقصد يومًا واحدًا فقط، وسأعلم أمّك بقصّتنا عندما حتى لا تضطري بعد الآن للكذب بشأنِ الهالات السّوداء وسأعترف لها بأنني سبّبت لابنتها الأرق ولكنّها تسبّبت لي أيضًا بالوقوع في حبّها. سأخبرها بأنّنا تعادلنا بالحبّ”.
كم كانَ جميلًا لو قرأت رسالتي الأخيرة يا زين! يومها كنت ستعلم حقًّا بأنّني انتظرتك أعوامًا.

Check Also

ندعوا أهل الخير للمساهمة في إفطار مئة صائم يومياً

بمناسبة حلول شهر رمضان المبارك، يطلق “مركز مصان” لذوي الإحتياجات الخاصّة مشروعه الإنسانيّ “مائدة الرّحمٰن” …

Open chat
أهلاً وسهلاً بكم